مدونة المعارف

29‏/06‏/2008

بناء المجتمعات


الإسلام كما أنه دين رباني فهو نظام اجتماعي يربط المرء بريه وبالآخرين؛ فالفروض الشرعية كالصلاة والصدقة ونحوها هي أشكال اجتماعية تنحو إلى بناء مجتمع متكاتف فيما بينه. إلا إننا نلحظ أن هذا البناء الاجتماعي فقد حسه لدى بعض الناس حتى ظن الجاهل أن تخلفنا هو بسبب بنيتنا الاجتماعية، وتصور أن تطورنا يكون بتقليد الأمم المتقدمة مادياً، تقليداً في السلوك والثقافة والفكر ولم يتوقف الأمر على ذلك بل اتجه إلى ما هو أعمق وأخطر وهو تقليد المنهج.
وهذا تصور ساذج سطحي فأمتنا قوتها في تفردها وتميزها عن المناهج الأرضية فمنهجها الاجتماعي مختلف لأن أصوله تنبع من الوحي؛ ولهذا عندما أصبحنا صدى سيء للمنتج الفكري والثقافي والسلوكي الغربي والشرقي، كان ذلك من أشد الأسباب للتفكك والفوضى الاجتماعية التي نعيشها. فتقليدنا للآخر فقدنا القدرة على الإبداع والإنتاج والتنافس. فلبناء مجتمعا مستقلاً متميزاً فريداً لابد أن يكون ذلك البناء على منهج القرآن والسنة والتي أثمرت مجتمعاً فريداً لم يرى التاريخ مثله.
وبعد البناء الإيماني لابد أن يكون لدى المرء هماً ذاتياً يحدث له تغيرا خارجياً ينقله من السكون والخمول والعادات السلبية إلى الحركة والبناء، ففقدان الهم الداخلي يجعل المرء بعيداً عن المساهمة في البناء والتكوين، لذا من المهم جداً أن نهتم بأفكارنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا في حياتنا اليومية إذ هي تساهم بجزء ما في تشكيل عالمنا وبالتالي تشكيل المجتمع.
ولا يكتفي المرء بالمراقبة الذاتية؛ بل من المهم أيضاً أن يسأل المرء نفسه: على ماذا بنيت علاقتي بالآخرين؟ هل هي مبنية على الحب في الله تعالى والتآخي أم مبنية على المصلحة والضرورة الاجتماعية؟ فأساس بناء العلاقات بين الآخرين له دور في تكوين وتشكيل المجتمع فالحقد والبغضاء والحسد والرغبة في التصدر وعدم احترام الآخرين وغيرها من السلوكيات والعادات السيئة تظهر نتيجتها ـ بطريقة ما ـ في علاقاتنا مع بعضنا وبالتالي يُبنى على هذا العلاقات المجتمع، والتي تكون نتيجته محاولة الهروب من المجتمع وتشكيل مزيداً من المأساة في المجتمع.
ولو تأملنا قليلاً في الفوضى والفساد والمآسي التي يعشها مجتمعنا نجد أننا نشكل جزءا من إحداث هذه الفوضى والمآسي، نحن شكلناها على وفق علاقاتنا مع بعضنا بعض ووفق ما بأنفسنا، فإذا كانت الفوضى والمأساة والاضطراب في ذواتنا فإنها تنعكس على عالمنا الخارجي وبالتالي يتشكل مجتمعنا بهذه الصورة، فالمجتمع ـ في إحدى صوره ـ هو علاقة بيني وبينك، وهو نتيجة لهذه العلاقة، فإذا كانت علاقاتنا فوضوية أنانية فالمجتمع يكون كذلك.
ويتساءل المرء: هل يمكن أن يكون هناك مجتمعا ساكنا خاملا وأفراده متحركين منفعلين؟
بالطبع لا يمكن، لأن المجتمع نتاج الأفراد، فتلك المجتمعات التي أحدثت تغيراً جذرياً في بنيتها وتركيبها لا يمكن أن يحدث لها ذلك ما لم يكن هناك تغيراً جذرياً داخلياً في الأفراد، فالاهتمام بالظواهر والشكليات والماديات الخارجية في سبيل التغيير الاجتماعي هو بناء غير تأسيسي حيث عكست القاعدة فجعلت القاعدة فوق البناء. فلبناء مجتمعاً إيمانياً عملياً منظماً علينا أن نتجه للفرد من الداخل، نتجه لعقيدته وتصوراته وأحاسيسه ومشاعره وأفكاره ومفاهيمه علينا أن نخاطب هذه المنظومة خطاباً بناءاً تجديدياً، نزيل ما بالنفس من خرافات وبدع ومفاهيم مغلوطة وتصورات خاطئة عن الإنسان والحياة والكون وقبلها عن الدين فالمعالجة الاجتماعية لا تنجح ما لم يسبقها معالجة داخلية للفرد.هذه نقطة جوهرية وليست شكلية، فالمعالجة الخارجية لا تحدث تغير جذري وبناء تكاملي؛ بل التغيير المجتمعي الخارجي دون البناء الذاتي هو كبناء غطاء جميل على كومة من المتلوثات مع مرور الوقت يفسد هذا الغطاء ويظهر ما به من آفات.
إننا نرى في المجتمع قضايا وليدة مستحدثة غريبة على مجتمعنا، نرى تشققات في بعض نواحي مجتمعنا تتطلب حلولاً سريعة ومعالجات إبداعية، الأمر يتطلب تحركاً سريعاً ذاتياً داخلياً أولاً ثم تحركاً مجتمعياً؛ ويكون هذا التحرك مبنياً على إدراك أسباب ضعف المجتمع كي نعيد بناءه من جديد على أسس إيمانية ربانية بعيدة عن تقليد الغرب والشرق، فمجتمعنا لابد أن يكون له خصوصيته وتفرده، وأعيد؛ فلسنا كالمجتمعات الأخرى؛ فنحن أصحاب منهج رباني يتميز عن أي منهج أرضي وبالتالي لابد أن يتميز أصحاب هذا المنهج عن غيرهم في التعامل مع الإنسان والحياة ككل.
ويتساءل المرء: هل الفرد مجرد آلة في المجتمع أو هو نهاية المجتمع؟ هل المجتمع وجد من أجل الفرد؟ هل أنت وأنا كأفراد يتحكم فينا المجتمع والدولة في التوجيه والتعليم والتثقيف والتشكيل ؟ هناك من يرى أن المجتمع هو الذي يشكل الفرد وبعضهم يرى العكس. فإذا كان الفرد مجرد آلة في المجتمع، فالمجتمع يكون أكثر أهمية من الفرد، فعلينا أن نتخلى عن الفردية ونعمل من أجل المجتمع فتكون الأنظمة الاقتصادية والتعليمية والتثقيفية بالكامل متجه إلى البناء المجتمعي ونتخلص من الفردية ونجعل الفرد كآلة لخدمة المجتمع. أما إذا كان العكس بأن وجد المجتمع من أجل الفرد فلا تكون وظيفة المجتمع تشكيل الفرد وإنما إعطاءه الحرية والقيمة الفردية لتشكيل ذاته وبناء أفكاره.
والحقيقة أن العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة تكاملية وإن كانت المصلحة الاجتماعية تقدم على المصلحة الفردية عند التعارض إلا إن الفرد لا يفقد حقه بل يعوض ما فقده من أجل المحافظة على حقوقه وبالتالي المحافظة عليه فكراً وسلوكاً وانضباطاً. فالعلاقة تكاملية فلا يمكن أن يعيش الإنسان دون مجتمع يعيش فيه ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي دون الأفراد، فعلى الأفراد أن يقوموا بمهام اجتماعية كي يكون المجتمع أكثر انتظاماً وقدرة على حماية وصيانة أفراده؛ فكما أن الفرد يريد من المجتمع أشياءً فعليه أن يقدم هو للمجتمع شيئاً. وهذه ليست ميزة فريدة للإنسان بل حتى الحيوانات تحتاج أن تعيش في مجتمع. وهذا خلاف ما يذهب إليه الفكر الغربي الحديث والذي يعمل على غرس الفردية وتعزيز الانفصال عن المجتمع وجعل الحقوق الفردية لها الأولية والأسبقية وخصوصاً بعد سقوط النظام الشيوعي وسيطرة الرأسمالية. إذ أصبح الفرد يعيش لذاته ولهمومه الشخصية.
ولو تأملنا المجتمع في نظر أحد فلاسفة الغرب وهو "نيتشه" مثلاً والذي يمثل لديه المجتمع الحضاري هو المجتمع القوي، إذ يرى أن ضعفاء المجتمع يجب أن يقضى عليهم، وأن يفنوا فلا يحق لهم أن يعيشوا فهم مصدر كل شر وبلاء، إذ أشد الرذائل ـ في نظره ـ الشفقة على الضعفاء. ويذهب أيضا إلى أن مجتمعات العالم الحديث تظهر لنا طبيعة الإنسان أكثر مما يظهره الأفراد. فالدول لها القدرة أن تتصارع فيما بينها بخلاف الأفراد فهم ليس لديهم القوة والشجاعة لذلك، والدولة تدخل في الصراع بتقسيم الأدوار بين الأفراد فلا يشعر أحد من الأفراد بالمسؤولية تجاه عمل الدولة. فسلوك الدولة هو الحرب والصراع والعمل وفق مبدأ "إرادة القوة". وعن طريق القوة لا مجال للفرد إلا الامتثال والانصياع فهي تعزز في شعبها قيم الطاعة والمواطنة والواجب.
وسلوك القوة لا ينحصر على الدولة فقط بل حتى الفرد فهو يحاول أن يفرض سيطرته على الآخرين، فكل عمل تجاه الآخرين هو نتيجة هذه الرغبة الداخلية بأن تجعل الشخص تحت سيطرتك بأي طريقة كانت، سواء بإعطائه هدية، أو بزعم الحب له، أو بالثناء، أو بالإيذاء .. فالهدف هو فرض إرادتك على الآخرين وبالتالي تفرز قيم الانتقام والتكبر والتجبر.
ويرى "نيتشه" أن هذه الإرادة ليست شراً بل هي جزءاً أساسياً من الوجود؛ والرضا والسعادة تأتي لاحقاً كنتيجة لقدرة الكائن لأن يعيش وفق غرائزه.
فالنظرة الغريبة تأصل النزعة الفردية ـ كما ذكرنا سابقاً ـ وتعزز الأنا بإطلاق كما في الدولة أو بحصر كما في الفرد. لذلك وفق هذا الزعم لا يوجد شيء أسمه إيثار أو حب الخير للناس وإنما فرض السيطرة بأي أسلوب. وهذه النظرة تجعل الإرادة مصدر لكل الشرور والمعاناة في هذا الكون. وتجعل نزعة الإنسان حيوانية "فالعيش للأقوى"، ومجتمع يحمل هذه التصورات والرؤى ليس جديراً أن يُقرأ فضلاً أن يقلد.
وتأمل هذا الاتجاه والذي لا يقيم للضعيف وزنا مع مكانة الضعفاء في المجتمع الإسلامي حيث يقول عليه الصلاة والسلام:" إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم "، وهذه النظرة العالدة للمجتمع إذ البناء المجتمعي لابد أن يكون لجميع أفراده فلا تهمل طائفة لضعفها أو جهلها، بل المجتمع كالجسد الواحد لا يمكن أن يعيش سليماً وجزء منه مريض مهمل ففي الصحيحين وغيرهما من حديث النعمان بن بشير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه البخاري ومسلم. ومما أخرجه الشيخان أيضاً من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال :"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". والله أعلم.

23‏/06‏/2008

ماهوعلم التجويد؟؟

علم التجويدثابة من المصطفى عليه الصلاة والسلام والدليل:

قال تعالى : (( ورتل القرآن ترتيلا )) المزمل 4 وقال تعالى : (( كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا )) الفرقان 32 .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل " .

كم هو جميل وحسن أن نقرأ القرآن كما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما قرأه الرسول الأعظم على أصحابــه بتأنٍّ وترسل ، وبإعطاء كل حرف حقه ومستحقه من مدّ وغنة وإظهار وإدغام وتفخيم وترقيق .... الخ .

وكم هو قبيح بالمسلم أن يهجر تلاوة كتاب ربه ، ودستور حياته فلا يفكر في قراءته ، وإذا قرأه مرة أو مرت به آية عارضة وجد الصعوبـة بها وكأنه يقرأ لغة أجنبية ! وكان المسلمون الأولون لسلامة فطرتهم وسليقتهم العربية يتلون القرآن تلاوة مرتلة مجودة كما علمهم إياها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكما يتناقلها الخلف عن السلف ، ولكن بعد اختلاط العرب بالأعاجم ودخل الناس أسودهم وأبيضهم عربيهم وأعجميهم في دين الله أفــواجا .. وضع العلماء أصولا وقواعد لضبط التلاوة ، حفاظا على كتاب الله وخوفا من الخطأ فيه . واعتبروا تعلم قواعد الترتيل والتجويد فرض كفاية على المسلمين إن تعلمه بعضهم سقط عن الباقين .. أما العمل به أي تطبيق قواعده في الكلمات القرآنية ففرض عين على كل قارئ لكتاب الله تعالى فقد قال العالم المحقق ابن الجزري :

والأخـذ بالتجويد حتمٌ لازم من لم يجود القرآن آثـم

لأنـــه بــــــه الإلــــه أنـــزلا وهكذا منـه إلينـــا وصلا

قسمتْ أساليب التلاوة إلى ثلاثة كلها جائزة :

1. الترتيـل : وهــو الـقــراءة بـتــؤدة واطــمـئــنــان ، وإعـطــــاء الـحــروف حـقـهـا مـن الــمــخارج والصـفـات ومـستـحـقـها مــن الـمـمـدود والـغـنــات ..... إلــخ .

2. الحـدر : وهو سرعة القراءة وإدراجها مع ملاحظة الأحكام بحيث لا يقصر الممدود ويحافظ على الغنـات .. إلخ .

3. التدويـر : وهو التوسط بين الترتيل والحـدر .

وهكذا نرى أن الأحكام يجب المحافظة عليها في كل حالة أو أسلوب من أساليب التلاوة واعلم بأن التلاوة الصحيحة تعين على فهم كتاب الله تعالى بينما القراءة السريعة والتي تسمى بالهذرمة لا تعين التالي ولا السامع على فهم المقصود من الآيات البينات .


السودان وتشاد .. فصول من التوتر المستمر


المحاولة الانقلابية الفاشلة التي نفذها متمردو "حركة العدل والإحسان" في العاصمة السودانية الخرطوم، والتي على إثرها قرر السودان قطْعَ علاقاته الدبلوماسية مع تشاد، والتقدم بشكوى ضدها إلى الأمم المتحدة، كما قررت الحكومة اعتقال الدكتور حسن الترابي على خلفية الأحداث، ثم أطلقت سراحه بعد ساعات من اعتقاله، كل هذا حدث على خلفية اتهام الخرطوم لـ"إنجامينا" بالوقوف وراء الهجوم الفاشل، وهو مدعاة لمناقشة متعمقة لأسباب التوترات المستمرة والاتهامات المتبادلة بين الدولتين.
الجديد في الأمر هذه المرة، هو أنّ حركة العدل والمساواة المتمردة كانت تقوم في الماضي فقط بهجمات خاطفة على القوات الحكومية في ولاية " كردفان" القريبة من معاقلها، لكنها المرة الأولى التي تتجرأ وتهاجم "أم درمان"، وهي جزء أساسي من العاصمة الخرطوم.
كما تعد هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها القتال إلى مشارف العاصمة السودانية خلال عقود من الصراع بين الحكومة المركزية في الخرطوم والعناصر المناوئة لها.
الرواية الرسمية للحكومة السودانية عن الأحداث تقول: إن قوات المتمردين وقعت في كمين نصبته لها القوات المسلحة، عندما أتاحت لها فرصة التوغل إلى مشارف العاصمة، قبل أن تُطْبِقَ عليها من الخلف. وذكرت المصادر الرسمية أن القوة التي هاجمت أم درمان كان قوامها نحو 500 سيارة دفع رباعي، تسلَّلَتْ إلى داخل السودان من دولة تشاد، وتجمعت في منطقة شمال "وادي هور"، بولاية "كردفان" قبل أن تتوجه صوب العاصمة، وأنّ قوات التمرد جاءت إلى "أم درمان" في ثلاث مجموعات، كانت إحداها تستهدف الوصول إلى مبنى الإذاعة الحكومية، والثانية تقصد القصر الرئاسي، والثالثة هدفها الوصول إلى القيادة العامة للجيش.

اختراق أم درمان إلا أن هناك انتقادات من عدد كبير من السياسيين والمثقفين السودانيين للمعالجة الحكومية للأزمة، وتتلخص الانتقادات في أن مساحة السودان شاسعة جدا- نحو مليونين ونصف مليون كيلو متر مربع- تتمتع بتنوع جغرافي وديمغرافي يمكن أن تضيع فيه جيوش جرارة، لكن وصول متمردي دارفور إلى العاصمة الخرطوم كان مفاجأةً صادمةً، للرأي العام والنظام الحاكم على حَدٍّ سواء، فكان السؤال كبيرا بحجم الاختراق: كيف استطاع مئات المتمردين وهم يستقلون نحو مائة وخمسين سيارة ، مُزَوَّدِينَ بأسلحةٍ خفيفةٍ ومتوسطةٍ، أنْ يقطَعُوا مسافة آلاف الكيلومترات- وحسب رواية الحكومة السودانية فإنهم كانوا قادمين من تشاد- ثم يقتحموا "أم درمان"، ويخوضوا قتالًا عنيفا ضاريًا مع الجيش السوداني، ويسقط قتلى وجرحى، وتقع خسائر مادية، فضلا عما أحدثه هذا الاختراق من إرباك وتوتر للسكان والحكومة؟! سؤال عريض!
ويرى منتقدو الحكومة أن اللوم كُلَّ اللوم لا يقع علي تشاد، وإنما علي الحكومة السودانية وأجهزتها الأمنية، وقادة جيشها، فهؤلاء يتحَمَّلون المسئولية عن هذا الاختراق المخْجِل للسيادة السودانية، وفي هذا الظرف الحرج. فالسودان في حالة حرب منذ سنوات، ومن المفترض أن تكون قواته المسلحة في حالة طوارئ على مدار الساعة للتصدي لأي هجوم، ولكن الحال لم يكن كذلك!
كما أن اعتقال الدكتور حسن الترابي واحتجازه لست ساعات للتحقيق معه حول هذا الاختراق المؤسف، يُعْتَبَرُ محاولةً لتصدير الأزمة إلى طرف داخلي، وإبعاد اللوم عن الحكومة وأجهزتها الأمنية والعسكرية، وهو أمر غير مقبول، فضلًا عن كونه غير مقنع.
ويضيف المنتقدون أيضًا : إن مَن يستحق المثول أمام التحقيق والقضاء العسكري هم القادة الأمنيون والعسكريون الذين ارتكبوا أسوأ أنواع التقصير والإهمال، عندما لم يسهروا بالشكل المطلوب على أمن الوطن والمواطن، ولم يحموا التراب الوطني من مثل هذه الاعتداءات.
وأيًّا كان الأمر، فمن الواضح أن المتمردين حقَّقُوا إنجازًا سياسيًّا وإعلاميًّا، وأحْرَجُوا الحكومة السودانية أمام شعبها والرأي العام الدولي، لكننا نعود للتذكير بعنصر جوهري في كل هذه الأزمات التي تعصف بعالمنا العربي، وهو التدخل الخارجي، وخاصةً من قِبَلِ واشنطن التي تضع أصابعها الشريرة، وتغذي الأزمات العربية؛ حيث تدعم طرفا ضد الآخر، فهي تناصر متمردي دارفور ضد الحكومة السودانية.
كما أن هذا الاعتداء انتهاكٌ صارخٌ لأمن السودان، وتصعيدٌ مُتَعَمّد للحرب ضد النظام السوداني وحكومة الإنقاذ، ومحاولةٌ لنقل الفتنة إلى داخل العاصمة السودانية؛ لإحراج الحكومة، ولا بد من وجودِ أيادٍ خفيةٍ تدعمه، فمن غير المنطقي أن يستطيع هؤلاء المتمردون الوصول إلى العاصمة دون مساعدة أطراف داخلية، وخارجية معًا.

ظلال دارفور حاضرة الصراع الدائر بين الخرطوم والمسلحين في دارفور هو أحد مسببات التوتر بين الخرطوم و"إنجامينا"، والأزمة تتصاعد بوتيرة متسارعة بين تشاد والسودان، فتشاد تتهم السودان بالسعي لزعزعة الاستقرار بها، وتقديم مساعدات عسكرية ومالية للمتمردين التشاديين الذين يسعون للإطاحة بالرئيس التشادي "إدريس ديبي".
وهناك اتهامات سابقة متبادلة بين البلدين بانتهاك السيادة، وجرت مساعٍ للحوار والمصالحة بينهما، لكنَّ الطرفَيْن لا يثق كلاهما بالآخر؛ فتشاد تُئْوِي نحو 200 ألف لاجئ من دارفور فرُّوا منذ فبراير 2003م من الحرب الأهلية الدائرة في الإقليم، ومنذ ذلك الحين وعلاقات البلدين تشهد توترًا متزايدًا؛ حيث تتهم الحكومة السودانية الجيش التشادي بانتهاك حدودها البرية.

وقد سبق لتشاد تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي ضد السودان، تتهمه فيها بالتدخل في شئونها الداخلية، ومن جانبها اعتبرت السودان أن إقدام تشاد على هذه الخطوة سيؤدي إلى مزيد من التدخلات الدولية في شئون المنطقة المضطربة.
وتعتقد تشاد أن الهجوم الذي شنه المتمردون على "إنجامينا" في آخر كانون الثاني (يناير) الماضي هو ثمرة أزمتين متفجرتين:
- الأزمة الأولى: مأساة دارفور.
- والثانية: مساندة السودان للمتمردين الذين يحاولون خلع الرئيس التشادي، إدريس ديبي.
فديبي يميل إلى نشر قوة سلام أوربية في تشاد وجمهورية وسط أفريقيا، وحكومته لا تبخل بالمساعدة على بعض الجماعات المتمردة بدارفور، وفي المقابل يحاول نظام الخرطوم الحيلولة دون نشر القوة الأووبية، وقطع روابط متمردي دارفور بتشاد.

ويُحسب للحكومة السودانية ممارستها قدرًا كبيرًا من ضبط النفس، والدعوة إلى حل الأزمة بالحوار في أوقات سابقة، لكن استمرار التصعيد من جانب تشاد قد يدفع السودان إلى التعامل معها بالمثل، وهو ما سوف يجر المنطقة إلى صراع مسلح طويل الأمد، ويكفي أن نشير إلى أن الهجمات غير المنظمة لميليشيا "الجنجويد" ضد حركات التمرد في دارفور يمكن أن تتحول إلى عمليات منظمة ومُقَنَّنةٍ تطال أرض تشاد، وهو أمر لن تستطيع تشاد مجاراته.

تآمر وأزمة ثقةالرئيس التشادي إدريس ديبي، المتزوج من أربع نساء، والذي أنجب أكثر من عشرين من البنين والبنات، سمى أحد أبنائه بعمر البشير، تيَمُّنًا باسم غريمه الحالي الرئيس السوداني عمر البشير!
كما أن أغلب أبناء الرئيس التشادي وُلِدُوا في مستشفيات السودان، إما في دارفور أو الخرطوم، ومع ذلك، فإن أزمة الثقة بين الرئيسين متفاقمة ومتصاعدة في السنوات الماضية، ولم تفلح في تصفيتها علاقات الود القديمة.
فديبي متمسكٌ باعتقاده بأن المشاكل لا تأتيه من داخل بلاده بقدر ما باتت تهب عليه من السودان، كما لا يرى أنه يواجه معارضين تشاديين بقدر ما يواجه مرتزقةً قادمين بِعُدَّتِهم وعَتَادِهم من السودان، منذ أن أخذت العلاقات بين الخرطوم و"إنجامينا" مسارَ التوتر المستمر، على خلفية اندلاع الحرب في إقليم دارفور عام 2003.
وظل ديبي يرسل الاتهامات تلو الأخرى بأن الخرطوم تخطط وتدبر للإطاحة بنظام حكمه، عبر إدارتها حربًا بالوكالة ضده، وتوفيرها الإسناد لمعارضيه في هجماتهم المتكررة على مواقع الجيش التشادي، وأكبرها الهجوم الذي شنته المعارضة العام الماضي على العاصمة "إنجامينا" نفسها.
ويرد السودان الاتهام باتهام لتشاد بتقديم الدعم اللوجستي للحركات المسلحة في دارفور، وتوفير الملاذ الآمن لقياداتها.

محاولات صلح فاشلةفشلت كل المحاولات الثنائية وعبر الوسطاء في إنهاء القطيعة بين البلدين، وأهمها ما قام به الرئيس الليبي معمر القذافي في مطلع العام 2006 ، عندما طرح مبادرة لحل الأزمة ، وقدمها في قمة الخرطوم، ووجدت القبول من السودان، وجرى على إثرها اجتماع قمة بين ديبي والبشير انتهى بإعلان طرابلس في فبراير من نفس العام.
غير أنه قبل أن يجف مِداد الإعلان اتهم السودان تشاد بمساندة الحركات المسلحة في تنفيذ هجوم على غرب دارفور من داخل أراضيها، وفي أبريل من العام نفسه اتهم ديبي السودانَ بالعمل على زعزعة الاستقرار في بلاده، لكن القذافي حرص على التهدئة.
وتكررت المحاولات لتبلغ خمسا، تعانَقَ خلالها البشير وديبي، في عدة عواصم، لتعود الاتهامات بعدها. ومن تلك المحاولات استنجاد السودان بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، طالبًا منه التدخل في الأمر لحسمه نهائيا، وعبر تحرك (فرنسي – ليبي) تعانق البشير وديبي في قمة "بانجول" الإفريقية بناميبيا مرة أخرى، وعادت العلاقات إلى الهدوء المشوب بالحذر، لتتوتر من جديد بعد اتهام السودان لتشاد بدعم جبهة "الخلاص" المسلحة في دارفور بالتورط في عدة معارك بالإقليم المضطرب.
ثم جاء اتفاق الرياض بين البشير وديبي، على هامش القمة العربية التاسعة عشرة، الذي لم يدم طويلا حتى تبادل الطرفان الاتهامات!
وقُبَيْلَ إتمام المحاولة الخامسة في دكار بالسنغال، قال البشير للصحافيين عند زيارته للإمارات: إنه لا جدوى من الاتفاق مع ديبي؛ لأنه اعتمر معه في مكة وتصافحا أمام الكعبة، لكنه لم يفِ بوعده

16‏/06‏/2008

من هوالرازي؟؟؟

هو أبو بكر محمد بن زكريا المعروف بالرازي، ولد جنوبي طهران سنة 865م وفي الثلاثين من عمره انتقل إلى بغداد واستقر بها، عايش

الخليفة العباسي عضد الدولة وتتلمذ في علوم الطب على يد علي بن زين الطبري (صاحب أول موسوعة طبية عالمية "فردوس الحكمة" )، والفلسفة على يد البلخي.
كان الرازي أيام عصره متقناً لصناعة الطب، عارفاً بأوضاعها وقوانينها، تشدّ إليه الرحال لأخذها عنه، صنَّف الكثير من الكتب القيِّمة، وترك بصمات هامة في تاريخ الأدب الطبي، والألقاب التي أُطلقت عليه تعبِّر بشكل صريح عن عبقرية هذا العالِم وتميّزه، ومن هذه الألقاب: أمير الأطباء، أبقراط العرب، جالينوس العرب، منقذ المؤمنين.
عندما أسس عضد الدولة المستشفى العضدي جمع أشهر الأطباء على امتداد الإمبراطورية ففاق عددهم المائة طبيب، فاختار خمسين منهم ليكونوا طاقم المستشفى فكان الرازي منهم، ثمّ انتقى عشرة أطباء كرؤساء للأقسام فكان الرازي أبرزهم، وبالنظر لمؤهلاته جعله رئيساً لأطباء المستشفى، ولم يمضِ وقت طويل حتى ذاعت شهرته في طول البلاد وعرضها، وزحف طلاب العلم قاصدين بغداد لتلقي المعرفة على يديه، فأصبح حجَّة في علم الطب ومرجعاً للحالات المستعصية حتى لقب "بجالينوس العرب".


آثاره: ترك الرازي مكتبة غنية وإنتاجاً غزيراً إذ بلغت مؤلفاته مائتين وواحدا وسبعين كتاباً، أكثرها في الطب وبعضها في الكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضيات والمنطق والفلسفة والعلوم الدينية والفلك، وأعظم مؤلفاته وأشهرها على الإطلاق كتاب * "الحاوي في الطب" الذي سجَّل فيه الطب الهندي والفارسي والعربي مع سجل كبير من الحالات السريرية المتميزة، ووضع فيه تجاربه الشخصية لدعم النظريات السابقة أو لدحضها، ويقع الكتاب في ثلاثين جزءا تتضمن ذكر الأمراض ومداواتها مما هو موجود في سائر الكتب الطبية التي صنفها السابقون ومن أتى بعدهم حتى أيامه، ومن جليل فضله أنه كان ينسب كل شيء نقله إلى صاحبه، وهذا يدل على مبلغ أمانته العلمية واعترافه بفضل المتقدمين، ويذكر المؤرخ ماكس مايرهوف أنه في عام 1500م كان هناك خمس طبعات لكتاب الحاوي مع عشرات الطبعات لأجزاء منه. وله أيضا كتب أخرى قيمة منها:
* كتاب "المنصوري" في علم الطب كتبه للمنصور بن إسحاق صاحب خراسان، وفي هذا الكتاب توخى الرازي الاختصار فجعله عشرة أجزاء، لذلك رغب المترجمون به وترجموه عدة مرات إلى اللاتينية والإنكليزية والألمانية والعبرية.
* رسالته الرائعة في "الجدري والحصبة" تعتبر من أروع الرسائل العلمية المفصلة في وصف هذين المرضين ووضع التشخيص التفريقي بينهما وكيفية علاجهما، وهي دراسة مبنية على مشاهدات وملاحظات شخصية تنمُّ عن صبر وطول أناة، وتعتبر الأولى من نوعها بالنسبة للأمراض الإنتانية، فقد وصف فيها الحصبة والجدري بدقة متناهية وذكر الأعراض والتشخيص التفريقي بينهما، وأوصى بالانتباه أثناء الفحص إلى القلب والنبض والتنفس والمفرزات والحرارة العالية التي ترافق الاندفاعات، كما أكد على حماية العينين والوجه والفم لتحاشي التقرحات، طبع هذا الكتاب أكثر من 40 مرة في أوروبا وبلغات عديدة.
* كتاب "لمن لا يحضره طبيب"، عبارة عن كتاب شعبي يُسهب في وصف العلل وأعراضها وعلاجها بالأدوية والأعشاب التي يمكن أن تتوفر في كل منزل، وعُرف هذا الكتاب بـ "طب الفقراء".
* كتاب "الأسرار في الكيمياء" هذا الكتاب بقي لمدة طويلة مرجعاً أساسياً لمدارس الغرب والشرق.
هذا بالإضافة إلى أكثر من 200 كتاب في الطب، لذلك وصف "أ. براون" الرازي قائلاً: إنَّه من أقدر الأطباء المسلمين وأكثرهم ابتكاراً وأعظمهم إنتاجاً.
وأما ابتكاراته الطبية والعلمية فنذكر منها:
* الرازي هو أول من أدخل الملينات في علم الصيدلة، وهو أول من اعتبر الحمى عرضاً وليست مرضاً.
* وهو أوَّل من ابتكر طريقة أخذ المشاهدات السريرية ومراقبة المريض وتسجيل ما يبدو عليه من أعراض، ليستنتج من ذلك أحواله وتطورات مرضه.
* للرازي طرائق هامة في الطب التجريبي تضمَّنها كتاب الحاوي، منها مثلاً أنه كان يعطي القردة الزئبق أو مغليات بعض الحشائش أو أدوية معينة، ثم يراقب آثار تلك الأدوية عليها ويسجل مشاهداته.
* اهتمَّ الرازي اهتماماً كبيراً بالأمراض النفسية وارتباط التأثيرات النفسية على مجمل الصحة العامة.
* وهو أول من خاط جروح البطن بأوتار العود.
* وهو أول من عالج الخراجات بالخزام.
* له في الكيمياء اكتشافات هامة أهمها حمض الكبريت وكان يسميه زيت الزاج.
* أول من استقطر المواد السكرية والنشوية المتخمرة واستحصل منها على الكحول.
*اشتغل الرازي بتعيين الكثافات النوعية للسوائل وصنف لقياسها ميزاناً خاصاً أطلق عليه اسم "الميزان الطبيعي".
إطلالة على بعض آراء وأفكار الرازي: عندما أراد الخليفة بناء المستشفى العضدي عهد إليه اختيار الموقع الملائم، فابتكر طريقة لا تزال محل إعجاب الأطباء، حيث عمد إلى وضع قطع من اللحم في أنحاء مختلفة من بغداد، ثم أخذ يراقب السرعة التي تنتن فيها القطع وتتبدَّل رائحتها، وبطبيعة الحال كانت أنسب الأماكن أقلها سرعة في التعفن والفساد.
ينبغي على الطبيب أن يوهم مريضه بالصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، لأن مزاج الجسم مرتبط بمزاج النفس.
كان الرازي يزرع في نفوس تلاميذه بذور الفضيلة وحسن الأخلاق، كما اعتبر الشعوذة والمتاجرة تدنيساً للرسالة المقدسة، وكان يحثهم على معالجة المرضى الميؤوس منهم والاهتمام الزائد بهم، وأن يبثوا في مرضاهم روح الأمل وقوة الحياة.
كما أنه أعطى للمنطق دوراً بارزاً، وفي كتابه "الطب الروحاني" يتحدث عن العقل ويعتبره من أعظم نعم الله وأرفعها قدراً، ويقول:"...لا نجعله وهو الحاكم محكوماً، ولا وهو الزمام مزموماً، ولا نسلِّط عليه الهوى الذي هو آفته ومكدره، والحائد به عن سننه ومحجَّته وقصده واستقامته، بل نروضه ونذلله، ونحوله ونجبره عن الوقوف عند أمره ونهيه...".


ومن أقواله: الحقيقة في الطب غاية لا تدرك، والعلاج بما تنصّه الكتب دون المهارة والحكمة خطر. ويقول: من تطبب عند كثير من الأطباء، يوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم.


خاتمة: عاش هذا العبقري أيامه الأخيرة في فقر مدقع، لكن شهرته بقيت تجوب الآفاق، واسمه بقي لامعاً في سجل الخالدين، فنرى أنَّ الملك الفرنسي الشهير "لويس الحادي عشر" قد دفع الذهب الوفير وبطيب خاطر لينسخ له أطباؤه نسخة خاصة من كتاب الحاوي كي يكون لهم مرجعاً إذا أصابه مرض ما، والشاعر الإنكليزي القديم "جوفري تشوسر" يأتي على ذكر الرازي في إحدى قصائده المشهورة في كتابه "أقاصيص كونتربري"، وأطلقت جامعة بريستون الأميركية اسمه على أكبر أجنحتها تقديراً له، وفي كلية الطب بجامعة باريس نجد نصباً تذكارياً للرازي مع صورة له في شارع سان جرمان، كما ويطلق اسمه على الكثير من مستشفيات وقاعات التدريس والساحات في الدول العربية والإسلامية.
مما يجدر ذكره في نهاية هذه العجالة السريعة التي تخص علماً من أعلام الحضارة العربية الإسلامية وعبقرياً من عباقرة التاريخ الذين خُلِّدوا في سجل الحضارة الإنسانية، أن اسم الرازي يزيِّن الكثير من كتب الغرب ويُعرف في اللغات الأجنبية باسم ( رازيس Rhazes ).

10‏/06‏/2008

السؤال:

سائل بعث يقول: حصل عندي إشكال في حديثين قرأهما علينا إمام مسجدنا، وطلبت منه أن يحل الإشكال؛ فلم يستطع ذلك.
- فأما الحديث الأول فيقول الله فيه: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضِّري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني".
- وأما الحديث الثاني فيقول الله تعالى فيه: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار".
فكيف نفى في الحديث الأول أن عباده يضرونه، وأثبت في الحديث الآخر أن ابن آدم يؤذيه تبارك وتعالى؟
فأستفسر من فضيلتكم عما إذا كان كل من الحديثين صحيحاً أم لا؟ وكيف الجمع بينهما؟


المفتي: عبدالله بن عبدالعزيز العقيل
الإجابة:
أما الحديث الأول الذي فيه نفي إلحاق الضرر به تعالى، فقد رواه مسلم في (صحيحه) وغيره (1) من حديث أبي ذر.
وأما الحديث الثاني الذي فيه إثبات الأذى، فرواه البخاري ومسلم وغيرهما (2) من حديث أبي هريرة. فكلا الحديثين صحيح.

وأما الجمع بين الحديثين، فليس بينهما تناقض، ولا اختلاف بحمد الله؛ لأن الأذى أخف من الضرر، ولا تلازم بينهما. وقد ورد إثبات الأذى في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (3). وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (رواه البخاري ومسلم) (4). فقد أثبت أن الملائكة تتأذى مما ذُكر مع أن ابن آدم لا يستطيع أن يلحق الضرر بالملائكة. فالله سبحانه وتعالى يتأذى مما ذُكر في الحديث، وإن كان لا يمكن أن يلحقه ضرر من عباده، كما قال تعالى: {وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئًا} الآية (5)، وقال تعالى: {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئًا} الآية (6). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "ومن يعصهما -أي: الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يَضُرُّ إلا نفسَه، ولا يَضُرُّ الله شيئا" (7).

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو الدهر"، هو ما فسره بعد ذلك بقوله: "يقلب الليل والنهار"، يعني إن ما يجري في الليل والنهار من الخير والشر فهو بإرادة الله سبحانه، وتدبيره، وحكمته، لا يشاركه في ذلك غيره، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

وفي الحديث التصريح بتحريم سب الدهر. ومنه ما اعتاده بعض الناس من كونه إذا أخذه الغضب سب وشتم الشخص، واليوم الذي شاهده فيه، أو يلعن الساعة التي رآه فيها، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير من الناس نظماً ونثراً وليس منه وصف السنين بالشدة، في مثل قوله تعالى في سورة يوسف: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} الآية (8).

▪ قال ابن القيم: وفي سب الدهر ثلاث مفاسد:
- إحداها: سب من ليس أهلا للسب، فإن الدهر خَلْق مسخر، فالذي يسبه أولى بالذم منه.
- الثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع، وأنه أي الدهر مع ذلك ظالم، قد ضَرَّ من لا يستحق الضرر، وأعطى من لا يستحق العطاء.
- الثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال حقيقة، فَسَابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما: إما مَسَبَّةُ الله تعالى، أو الشرك به. فإنه إن اعتقد أن الدهر فاعل حقيقة مع الله، فهو مشرك. فإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل، وهو من فِعْله، فسبه للدهر سب للذي قَدَّرَ فيه هذه الأشياء، وهو الله سبحانه وتعالى. فالذي يسب الدهر واقع فيما ذُكر ولا محالة. نسأل الله السلامة، والمعافاة، في الدنيا والآخرة. انتهى.

___________________________________________

1 - مسلم (2577) عن أبي ذر في حديث طويل، وأحمد (5/ 154، 160، 177)، والترمذي (2495) وقال: حديث حسن، وابن ماجه (4257) وهذا لفظ عند مسلم فقط.
2 - البخاري (4826، 6181، 7491)، ومسلم (2246)، وأحمد (2/ 238، 272).
3 - سورة الأحزاب: الآية (57).
4 - البخاري (854، 855)، ومسلم (564) وهذا لفظ مسلم.
5 - سورة آل عمران: الآية (176).
6 - سورة آل عمران: الآية (144).
7 - أبو داود (1097).
8 - سورة يوسف: الآية (48).
نقلا من موقع طريق الاسلام