مدونة المعارف

31‏/01‏/2014

نحو تربوية العمل الخيري

المتأمل لمسيرة العمل الخيري الإسلامي في العالم العربي والإسلامي على مدار المائة عام المنصرمة يجد مليارات عدة قد بذلت في أوجه الخير داخل المنطقة العربية وخارجها، مؤسسات وشخصيات خيرية أثرت بخيريتها في بناء وتكوين المجتمع المسلم، بدءًا من إشباع الاحتياجات الأولية للأسر الفقيرة، مروراً بتوفير فرص العمل والتعليم لشباب الأمة، انتهاءً بنشر الخيرية في أوساط البلدان غير الإسلامية حيث الفقر والجهل والكوارث.

مرت الأمة -ومازالت- بأزمات، نكبات، حروب واضطرابات كان للعمل الخيري ورواده اليد الطولى في التحرك والبذل والإنفاق والتطوع بكافة أشكاله داخل هذه الأجواء العصيبة. محن مرّ بها العمل الخيري الإسلامي ضيقت عليه نشاطاته ووسمته مما هو بريء منه، ولكن الله جعل لهذا العمل المبارك من كل ضيق مخرجًا.

هذا الرصيد التاريخي للعمل الخيري الإسلامي لم يقف عند حدود البذل والإنفاق وإشباع الاحتياجات وفقط ولكنه قدم إرثاً ضخماً من الخبرات والتجارب، إرث وعاؤه مفتوح يستوعب كل يوم خبرة جديدة وتجربة عملية أصيلة، هذا الكنز من الخبرات المهنية والخريطة البذلية المصاحبة له سواء على مستوى الباذل أو المتلقي، يشكل تأصيلاً علمياً ومنهجياً غاية في الدقة والإثراء؛ من هنا كان السؤال الجوهري؛ لماذا لا يتم استثمار هذا الإرث من الخبرات الخيرية في المناهج التربوية؟ في كافة المراحل التعليمية بدءًا من الصفوف الأولية في المراحل الابتدائية انتهاءً بالأكاديميات والكليات المتخصصة التي تخرج لنا المتخصصون في العمل الخيري، والمعدون إعدادً علمياً وعملياً؛ يسدون من خلاله حاجة السوق الخيري والمؤسسات الخيرية في كافة مناشطها وأدواتها؟

أعلم أن هناك مبادرات طرحت في هذا السياق لكنها وقفت في معظمها عند حدود الدورات التدريبية، وعلى أقصى تقدير؛ تسجيل بعض الدارسين للحصول على درجات في الدراسات العليا كدراسة عملية على نشاط من أنشطة إحدى المؤسسات الخيرية، الملفت أن بعض الأقسام التي فتحت في جامعاتنا سارت على ذات الدرب البنائي في بناء المناهج والأقسام حيث الاقتداء بالغرب، في بناء المنهج أو التفاعل مع منحة غربية من هنا أو هناك لإنشاء قسم في مجال حقوق الإنسان، أو حتى في مواجهة الكوارث وإدارة الأزمات، وجميعها تقوم على إعداد وتدريس المناهج وفق الرؤية الأممية للإنسان القافزة في أحيان غير قليلة فوق الاعتبارات الشرعية والعقدية.

طرحي في هذا المقال تقوم فكرته على "بناء منهجي" نابع من خبرتنا وثقافتنا الخيرية المتخصصة والمتفردة، والضاربة بجذورها في أعماق التاريخ حيث بذل الصحابة رضوان الله عليهم وإنفاقهم بحضور سيد البشرية والخيرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتطبيقاً للتعاليم القرآنية في البذل والإنفاق، و"بناء بشري" يقدم للسوق الخيري ذلك الشاب المعد إعدادً أكاديمياً وتربوياً لا يقل عن إعداد الطبيب المتخصص والمهندس الماهر حيث التأهيل النظري للرؤية الخيرية ذات المرجعية العقدية التي تربط الدنيا بالآخرة، والتدريب العملي الفني القائم على أنجح ما توصلت إليه الخبرة الميدانية في المؤسسات الخيرية، مع الاستفادة من التقنيات الدولية الحديثة المعينة على أداء العمل الخيري في كافة القطاعات بسهولة ويسر وكفاءة.

أولاً: البناء المنهجي للعمل الخيري الإسلامي:
وهو بناء تربوي في الأساس؛ الهدف منه تقديم جملة من المناهج التربوية المستقاة من قطاع العمل الخيري الإسلامي؛ تكون قابلة للتدريس وإعداد الطلاب في المراحل العلمية المتعددة. وهذا البناء المنهجي يحتاج إلى أمرين: (لجنة معدة، ومادة علمية أرشيفية قابلة للإعداد والترجمة التربوية).

أما اللجنة فيمكن تكوينها من خبراء العمل الخيري الإسلامي، وأساتذة طرائق التدريس وبناء المناهج بكليات التربية، وأما المادة العلمية الأرشيفية فأحسب أن هناك جهود بحثية متعددة حاولت وتحاول أرشفة العمل الخيري الإسلامي في العقود الإخيرة، ليخرج المنتج النهائي في صورة مناهج علمية قابلة للتدريس وتأهيل الطلاب، وفي ذات الإطار وحتى يتم الانتهاء من وضع تصور شامل لمناهج العمل الخيري الإسلامي أقترح على وزارات التربية في العالم العربي والإسلامي استحداث مادة للعمل الخيري الإسلامي "قديماً وحديثاً" يتم إدماجها تصاعدياً في المناهج التربوية في المراحل التعليمية المختلفة. مع إدارج برامج زيارات ميدانية شهرية أو أسبوعية للمؤسسات الخيرية النشطة في محيط المجتمع المحلي للمدارس والمعاهد قبل الجامعية.

إن هذا الاقتراح التربوي من شأنه إحداث زخماً بذلياً في أوساط طلاب المدارس، فتتلود لديهم الحاسة المرهفة نحو البذل والعطاء والمشاركة في تحمل المسؤولية البذلية نحو فقراء المجتمع وأصحاب الحاجات والأعذار؛ كما أنه يساعد على تربية النفس وتهذيبها بمشاهدة حالات واقعية قد لا يراها التلميذ في الوسط الأسري الذي يحياه، الأمر الذي من شأنه أن يحدث عنده توازن نفسيى وقناعة بعطاء الله له ونعمه عليه وعلى أسرته، وهذا الاتزان والاستقرار النفسي من شأنه أن يقوم كثيراً من السلوكيات المعوجة المصاحبة لمرحلة المراهقة الحساسة.

ثانياً: البناء البشري المتخصص في القطاع الخيري:

وهذا البناء يهتم به في الأساس منذ التحاق الطلاب بالتعليم في الصفوف الأولية، وحتى المرحلة الثانوية كما أوضحنا في المقترح السابق؛ لنأتي بعد ذلك إلى مرحلة إنشاء الكليات والأكاديميات المتخصصة في العمل الخيري الإسلامي، فيكون عندنا هذا المسمى تحديداً (كلية العمل الخيري)؛ و (أكاديمية العمل الخيري)؛ ومستقبلاً بإذن الله ( جامعة العمل الخيري الإسلامي).

أعلم جيداً أن مشروع مثل هذا يحتاج إلى تمويلات ضخمة، وكوادر معدة ومؤهلة؛ لكن وفي ظل طفرة التعليم الخاص وإنشاء المعاهد والكليات المتخصصة الخاصة، ما المانع أن تقوم إحدى مؤسسات العمل الخيري الإسلامي الكبرى في العالم العربي بإنشاء معهد أو أكاديمية متخصصة في العمل الخيري الإسلامي؛ تمنح درجة البكالوريوس في العمل الخيري؛ وتتولى هي الإنفاق على المشروع من ناحية تجهيزات المباني، وإختيار الكوادر البحثية والتعليمية وبناء المناهج التربوية، وإلاشراف على عمليات تعلم الطلاب وتدريبهم عبر أنشطتها الميدانية. لتكون هذه الأكاديمية المتخصصة لبنة لإنشاء العديد من الأكاديميات في ربوع العالم العربي والإسلامي، سواء من خلال الحكومات أو المؤسسات الخيرية الكبرى.
إن تربوية وتعليم العمل الخيري يمكنها العمل على المستويين القريب والبعيد، فمن الغد بإذن الله يمكن إقرار نظام الزيارات الميدانية الدورية لتلاميذ المدارس العربية إلى الأنشطة الميدانية للمؤسسات الخيرية المحيطة بتلك الكيانات التعليمية، ومن العام القادم بإذن الله يمكن إدماج مادة جديدة عن العمل الخيري في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، يتم إعدادها من الآن لتكون جاهزة مع بداية العام الدراسي الجديد، ومن اليوم يمكن لإحدى المؤسسات الخيرية الكبرى أن تشرع في بناء أكاديمية علمية متخصصة في العمل الخيري الإسلامي يلتحق بها كل من لديه ميول بذلية يتخصص في العمل الخيري ويحصل على شهادة معتمدة بعد أن يصبح مؤهلاً للعمل في أنشطة العمل الخيري الإسلامي المتعددة سواء الخيرية أو التنموية أو الإغاثية؛ فهل يتحقق الحلم يوماً ما ليضرب العمل الخيري بجذوره تربوياً في أعماق التعليم بكافة مراحله ومستوياته؟!

المرجع /http://ar.islamway.net/article/19621?ref=p-new

خطبة مؤثرة عن بر الوالدين للشيخ عبدالرحمن السديس الجمعة 30 ربيع الاول 14...

17‏/01‏/2014

إنَّ السَّعيدَ لَمَن جُنِّب الفِتَنَ


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على عبدهِ ورسولهِ ، نبيبنا محمد وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين ، أما بعد :
فَلَقَد حَلَّ بالأُمَّةِ الإسلاميّة رَزيّة عَظيمة ، وفِتنَة عَمياء ، أَقضَّت مَضاجِعَ الدُعاة الصالحين والمُجاهدين الصادقين ، وأفرَحَت أعداء الأُمَّة مِن الكُفَّار والمُنافقين ، ألا وهي : ما حَلَّ بإخواننا المُجاهدين في بلاد الشام مِن تَفَرُّق وتَحَزُّب تَحوَّلَ فيهِ الأمر مِن حَربٍ بارِدةٍ بالبيانِ إلى حَربٍ ساخنة بالسنان ، والله غالِبٌ على أمرهِ وهو العَليمُ الحَكيم { وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } ، نسأل الله عزَّ وجَلَّ أن يرحمَ الأُمَّة ويكشف الغُمَّة ، ويجعل فيما أرادهُ الخيرَ وحُسن العاقبة لعِبادهِ الصادقين المُتَّقين .

ولَقَد وقع في هذهِ الفِتنةِ مَن وقع ، فَمِنهم مَن شارَك فيها بِلسانهِ ، ومِنهم بقَلَمِهِ ، وِمنهم بِسنانهِ :{ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، و ( إنَّ السَّعيدَ لمن جُنِّبَ الفتنَ ) [ أبو داود 4263 ، وصححه الألباني ] ، ولَقَد حَذَّرَنا الله عَزَّ وَجلَّ في كِتابهِ الكَريم مِن هذهِ الفِتَن ، فقالَ سٌبحانه : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }، وقالَ سُبحانَه : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
كَما حذَّرنا مِن هذه الفِتَن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلَّم حيث قال : ( ستكونُ فِتَنٌ ، القاعِدُ فيها خيرٌ مِنَ القائِمِ ، والقائمُ فيها خيرٌ منَ الماشي ، والماشي فيها خيرٌ من الساعي ، ومَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ ، ومَنْ وجد مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ )[ البُخاري 3601 ، مسلم 2886 ] ، وعن أبي هُريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفْسِي بيدِهِ لا تذهبُ الدُّنيا حتَّى يأتيَ على الناسِ يومٌ ، لا يَدري القاتلُ فِيمَا قَتلَ ولا المقتولُ فيمَ قُتلَ ، فقيلَ : كيفَ يكونُ ذلكَ ؟ قال : الهرْجُ ! القاتلُ والمقتولُ في النارِ ) [ مسلم 2908 ] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ويل للعرب من شر قد اقترب ، أفلح من كف يده ! ) [ أبو داود 4249 ، وصححه الألباني ] ، والأحاديث في ذلك كثيرة .

أمَّا خَوف السَلَف مِن الفِتَن ، وهروبهم منها ، ومواقفهم منها ، فكثيرة جدًا ، مِنها :

أنَّ عبدالله بن عُمَر رضي الله عنها قال : ( إِنَّمَا كَانَ مَثَلُنَا فِي الْفِتْنَةِ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا يَسِيرُونَ عَلَى جَادَّةٍ يَعْرِفُونَهَا ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ وَظُلْمَةٌ ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَمِينًا وَشِمَالا فَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكَنَا ذَلِكَ حَتَّى جَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا ، فَأَبْصَرْنَا طَرِيقَنَا الأَوَّلَ فَعَرَفْنَاهُ وَأَخَذْنَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا هَؤُلاءِ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ يَقْتَتِلُونَ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ، مَا أُبَالِي أَنْ يَكُونَ لِي مَا يُفَتِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ الْجَرْدَاوَيْنِ ) . [ سير أعلام النُبلاء : 3 / 237 ] .
وعن ابن سيرين قال : لَمَّا قيلَ لسعد بن أبي وَقَّاص رضي الله عنهُ : " ألا تُقاتِل ؟ ، إنَّكَ مِن أهل الشُورى ، وأنتَ أحق بهذا الأمر مِن غيرك " ، قال : ( لا أُقاتِل ! حتى يأتوني بسيفٍ لهُ عَينان ولِسان وشَفَتان ، يعرف المؤمن مِن الكافِر ، فَقَد جاهدتُ وأنا أعرِف الجِهاد ! ) . [ مجمع الزوائد : 7 / 584 ] .
وقالَ علي بن أبي طالب رضي الله عنهُ وهو يثني على موقف سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر رضي الله عنهما في اعتزالهما الفتنة ويغبطهما : ( .. للهِ منزِلٌ نزلَهُ سعْدُ بنُ مالِكٍ وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ واللهِ لئِنْ كان ذنبًا إنه لصغيرٌ مغفورٌ ولئن كان حسَنًا إنه لعظيمٌ مشكورٌ ) . [ الطبراني : 1 / 106 ] وفي ضوءِ كلام ربنا سٌبحانه ، وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومواقف سلفنا الصالح ، أُوجِّه هذه الوصايا لأبنائي وإخواني المُسلمين ، ولا سيما الدُعاة منهم والمجاهدين ، وذلك بعدَ أن انشرح صَدري لاعتزال جميع أطراف الفتنة ، وعَقَدتُ العَزمَ إن شاء الله تعالى على إمساك اللسان ، وعَدم استقبال أي طرح أو نقاش فيها ، فلم يبق من العمر فسحة في أن يضيع في القيل والقال ، فلقد استحصدَ الزَرع ، ومالَت شمس العُمر للغروب ، ودخلتُ عشر السبعين ، معترك المنايا ، فأرجو من الإخوان المُحبين أن يلتمسوا لي العُذر في عدم التجاوب معهم في الحَديث عن هذه الفتنة حتى تنجلي ، وأرى حَقًّا عليَّ نَحو نَفسي وإخواني أن أَتوجَّه إليهم وأمواج الفِتَن تتلاطم بالوصايا التالية :

الوَصيّة الأولى : أَمسِك عليكَ لِسانك .

عن عُقبة بن عامر رضي الله عنهُ قال : قلتُ : " يا رسولَ اللهِ ، ما النَّجاةُ ؟ " ، قال : ( أمسِكْ عليكَ لسانَكَ ، وليسعْكَ بيتُك ، وابكِ على خطيئتِكَ ) . [ حديث حسن الترمذي 2406 ، وصححه الألباني ] .
هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجاة من الفتن ، ولا يَندَم مَن أمَسَكَ لسانَهُ أيام الفِتَن ، وإذا كانَ لا بُد متكلّمًا فليكن رائدهُ الإخلاص ، لا حَظَّ نفسه ، والحَذّر من الكَلام بلا علم ولا تثبّت ، فما أكثرَ الكلام اليوم بلا عِلم ، بل بالظنون السيئة والافتراءات الكاذبة وترديد كلام مَن يميل إليه ويحبه دونَ تثبّت وتوثق ، وليتحرَّ العَدل والإنصاف مَعَ مَن يُحبُّهُ ومَن يَكرههُ ، قال الله عز وجل :{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ، وقالَ سُبحانه : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، ولأنَّ هذه الضوابط عَزيزة ، وقليلٌ مَن ينضبط بها ، فلا سَلامَة ولا عَافية أفضَل مِن إِمساك اللسان والقَلَم ، وقَد عَدَّ كثيرٌ من السَلَف فِتنَة اللسان في أيام الفِتَن كفتنة السيف أو أشد ، وهذا حَق ؛ لأنَّ السيف إذا ضُرِبَ به أحدٌ أَثَّر فيهِ وَحدَهُ ، وأما اللسان فيُمكِن أن تُضرَب بهِ ألف نسمة بمُجرد كَلمة يٌتَفَوَّهُ بِها ! ، بل قَد عَدُّوا المَيل القَلبي مَع فئة مِن المُسلمين ضِدَ فئة مِن الوقوع في الفِتَن .

الوَصية الثانية : التؤدة التؤدة ، والرفق الرفق .

قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأشجُّ عبْدِالقيسِ : ( إن فيكَ خصلتينِ يحبهُما اللهُ : الحلمُ والأناةُ ) [ مسلم 17 ] ، ومَدَحَ صلى الله عليه وسلم التؤدَة والأناة بقوله : ( التُّؤدةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلَّا في عملِ الآخرةِ ) [ أبو داود 4810 ، وصححه الألباني ] ، وقال صلى الله عليه وسلَّم : ( إنَّ الرِفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانهُ ، ولا يُنزَعُ مِن شيءٍ إلا شَانَهُ ) [ مسلم 2594 ] ، وإذا كَانَت التؤدَة والحلم والرِفق مَحمودة في كل وقت ، فإنها في أيام الفِتَن تَكون الحاجة إليها أشد ، وآثارها الحَميدة تَكون أكثر ، وقَد مَرَّ بِنا موقف ابن عمر رضي الله عنهُ مِن الفِتنة ، وتشبيهُهُ لها بقومٍ غَشيتهم سَحابَة وظُلمَة ، حيث لم ينجُ مِنها إلا المتريَثون على الجَادة الأولى ، وهَلَكَ من عجل ، وذهبَ ذاتَ اليمين وذات الشِمال . ويقول مطرّف بن الشخَير رحمه الله تعالى : ( لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إليَّ مِن أن ألتمِسَ فضل الجِهاد بالتغرير ) . [ سير أعلام النبلاء : 4 / 191 ] .

وإنَّ مما يُعين على التؤدَة والأناة : كَثرَة المشاورة لأهل العِلم الراسخين الربَّانيين وأهل العقل والتجربة ، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهوَ مَن هُوَ دينًا وعِلمًا وعَقلًا ويُنزل عليه الوحي ، يقول عنهُ أبو هريرة رضي الله عنهُ : ( ما رأيت أحدًا أكثر مُشاورةً لأصحابه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . [ صحيح ابن حبان : 11 / 217 ] ، وينبغي الحَذَر من مشاورة المُسارعين إلى الفِتَن ممن قلَّ عِلمهُ وتَقواهُ .
ومما يُعين على السَداد وموافقة الَحق وتجنّب الفِتَن كَثرة استخارة الله عزَّ وَجلَّ ؛ لأنهُ الذي يَعلم ولا نَعلم ، ويقدِر ولا نَقدر ، وهو عَلّام الغيوب .
والتؤدة اليوم تتحتَّم في نقل الكَلام والتثبّت مِن صحتهِ ،وعدم نشره بلا بينة توثقه كَما تجب في الحُكم على الناس بالكفر والتبديع والتفسيق ، وتكون في اتخاذ المواقف في الحب والنُصرة والمُوالاة ، وفي البغض والهجر والمُعاداة ، كما تَنبغي التؤدة في الحكم على الوقائع والنوازل .

الوصيّة الثالثة : اعتزل جَميع أطراف الفِتنة ، كلهم !

هكذا كانَ عمل أكثر السَلَف رحمهم الله تعالى ، ففيه السَلامة والعافية ، فمَن أراد لنفسهِ النجاة من الفِتنة ، فليعتزل أطرافها ، بقلبهِ ولسانهِ ويده ، وهَذا ما وَجَّهَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم .
ومما يتَعلَّق بالعُزلَة في زماننا اليوم : اعتزال مواقع الشبكة العنكبوتية ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، وهجر الكتابة فيها ، ومتابعة الشائعات والمهاترات التي تدور فيها ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ... ومَن استقرأ أحوال الفِتَن التي تجري بين المسلمين ، تَبيَّنَ لهُ أن ما دَخَلَ فيها أحد فحَمِدَ عاقبة دخوله ، لما يحصل من الضرر في دينه ودنياه ، ولهذا كانت من باب المنهي عنه ، والإمساك عنها مِن المأمور به " . [ منهاج السنة 4/ 410 ].
ولا يُنجي العَبد المتورِّط في الفِتَن أن يُقَلِّد في ذلكَ أحدًا مِن المَتبوعين المُحرِّضين عليها بتأويل أو غير تأويل ، فلا ينفعهُ ذلك عندَ الله عز وجل : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، ولا ينفعهُ ما يُقال لهُ من وُجوب طاعة الأمير ؛ فإنَّهُ لا طاعَة في معصية الله تعالى ، والمُسلم لم يترك أهله ووطنه إلا لقتال الكفار يبتغي بذلك رضى الله عز وجل وجَنَّتَهُ ، فإذا تَحوَّلَ هذا الجِهاد إلى قِتالٍ بين المسلمين ، فليعتزل لئلا يدخل بمشاركتهِ في ذلك نار جهنم بقتل نفس مسلمة .

الوَصية الرابعة : الإكثار من العمل الصالح .

إنَّ للعمل الصالِح وكَثرة العِبادة وكثرة ذكر الله عز وجل واستغفارهِ أثرًا عظيمًا في الوقايةِ من الفِتَن والكُروب ، قبل وقوعها والنجاة منها إذا وَقَعتَ ، قال تعالى عَن نَبيّه يونس عليه الصلاة والسلام : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، قال السعدي رحمه الله تعالى أي : " في وقته السابق بكثرة عبادته لربه ، وتسبيحه ، وتحميده ، وفي بطن الحوت حيث قال‏:‏ ‏{ ‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ " .
ومِن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( بادِروا بالأعمالِ فتنًا كقطعِ الليلِ المظلمِ ، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا ، أو يمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا ، يبيعُ دينَه بعرضٍ من الدنيا ) . [ مسلم 118 ] ، وفي هذا حَثٌّ على الأعمال الصالِحة قبل تعذّرها والانشغال عنها بما يحدث مِن الفِتَن الشائكة المُتكاثِرة .
ومِن الآثار الواردة أيضًا في فضل العمل الصالح والعبادة أيام الفِتَن ما رَواه مَعقل بن يسار رضي الله عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( العبادةُ في الهَرْجِ كهجرةٌ إليَّ ) . [ مسلم 2948 ] ، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : " وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين ؛ فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ، ويتبع مراضيه ، ويجتنب مساخِطه ، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤمنا به ، متبعا لأوامره ، مجتنبا لنواهيه " .[ إتحاف الجماعة للشيخ حمود التويجري : 1 / 93 ].

الوصية الخامسة : الدعاء ، الدعاء !

دُعاء الله عَزَّ وَجل ، والتضرّع إليه ، والاستعانة به ، والتبرؤ من الحَول والقوّة ، مِن أنجع الوسائل وأنفعها في الوقاية مِن الفتن والنجاة منها ، وفي الِهداية إلى الحق والثَبات عليه ، لا سيما عند التباسهِ بالباطل واختلاف الناس فيه ، وذلكَ لأنَّ مالِكَ القلوب ومُقلّبها هو الله عز وجل ، لا يهدي إلى الحق ، ولا يثبّت العَبد عليه إلا هو : ( من يَهدِهِ اللَّهُ فلاَ مضلَّ لَهُ ، ومن يضلل فلاَ هاديَ لَهُ ) ، قال الله عز وجل : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء } ، وقال سبحانه عن نبيّه نوح عليه الصلاة والسلام مع ابنه : { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } ، وقال عز وجل عن دعاء كليمه موسى عليه الصلاة والسلام بعد ما أخذت قومه الصاعقة : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } ، ومِن أنفع الأدعية في ذلك ما كانَ يدعو به صلى الله عليه وسلم ويحافظ عليه كل ليلة في الاستفتاح به في قيام الليل : ( اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ ، أنت تحكم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدِني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنِك إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم ) . [ مسلم 770 ] ، ومِن ذلك ما رواه زيد بن ثابت رضي الله عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تعوَّذوا باللهِ من الفتنِ ، ما ظهر منها وما بطن ) ، قالوا : " نعوذُ باللهِ من الفتنِ ، ما ظهر منها وما بطن " . [ مسلم 2867 ] .
وكذلك ما رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيتُ ربِّي في أحسَنِ صورةٍ ) – يعني في المنام - .. إلى أن قال :( إذا صلَّيتَ قل اللَّهمَّ إني أسألُكَ فعلَ الخيراتِ وتركَ المنكراتِ وحبَّ المساكينِ وإذا أردتَ بعبادِكَ فتنةً فاقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ ) . [ الترمذي 3231 ، وصححه الألباني ] .

وهكذا كاَن دأب السَلَف عند الفِتَن ، حيث يلجأون إلى الله عز وجل ، ويَدعون بأن يُنجّيهم من الفِتَن ، فعَن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال : " لما طعنوا على عثمان رضي الله عنه ، صلى أبي في الليل ، ودعا ، فقال : " اللهم قني من الفتنة بما وقيت به الصالحين من عبادك " ، فما أخرج ولا أصبح ، إلا بجنازته . [ سير أعلام النبلاء 2 / 335 ] .

ومما ينبغي الإلحاح عليه والدُعاء به : سؤال الله عز وجل أن يجمع كلمة المجاهدين ، وأن يوحِّد صفوفهم ، ويؤلِّف بين قلوبهم وأن يُعيدهم من الفرقة والإختلاف وأن يرفع ما حل بهم من الفتنة .

أسأل الله عز وجل أن يقيني والمسلمين من الفِتَن ما وقى به الصالحين من عباده ، كما أسأله سبحانه أن يوحِّد صفوف الدعاة والمجاهدين وأن يؤلِّف بين قلوبهم ، وأن يقيهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين ، والحمد لله رب العالمين .

عبدالعزيز بن ناصر الجليّل

06‏/01‏/2014

العنوسة في الدول العربية تشكل الخطر الأعظم

ملايين من الفتيات العربيات تجاوز عمرهن سن الثلاثين ولم يدخلن عش الزوجية بعد، وهو ما يعني أن ملايين من الشباب أيضًا تجاوز سن الثلاثين، وهو عازف عن الزواج أو غير قادر على تكاليفه.

الخطير في مشكلة العنوسة إذا ما أضفنا لها نسبة المطلقات والأرامل مع ضغط الغريزة الفطرية، في ظل ضعف الوازع الديني للأسف، أن هذا كله يشكل أرضًا خصبة لانتشار أفكار وسلوكيات تدعو إلى الفاحشة، وتشرع للرذيلة والإباحية، وخاصة في ظل توافر وسائل الاتصال الاجتماعي، الأمر الذي ينتج عنه تهديد منظومة القيم بالمجتمع، وانتشار علاقات غير شرعية، وتفشي ظواهر غريبة عن مجتمعنا، كالزواج السري، وهروب الفتيات، مما ينذر المجتمع كله بكوارث أخلاقية قد لا ينجو منها بيت.

صحيح أن مشكلة العنوسة باتت من المشكلات العالمية، إلا أن أغلب هذه الدول وخاصة المجتمع الغربي تعاطت معها بأسلوب يتسم بقصر النظر، منفلت من كل ضابط، أسفر عن ملايين من الأمهات العازبات، وملايين من الأطفال الذين ولدوا من أصدقاء لا من آباء شرعيين، وهو ما سيجر مصائب وكوارث على البشرية، لا يمكن أن تقبل بها مجتمعاتنا المسلمة بأي حال.

لكن العجب كل العجب حين يكون لدى المجتمعات المسلمة حلول ربانية كاملة، وقيم إسلامية صحيحة توصي بتزويج من نرضى دينه وخلقه، وتؤكد على عدم المغالاة في المهور، والبعد عن التفاخر بالعصبيات، واجتناب الإسراف في إقامة الأعراس المكلفة، والمغالاة في شراء الذهب وغير ذلك من مظاهر البذخ والترف. ومع ذلك يكون من بين المسلمين من يفعل ذلك كله، ومنهم يتشدد في مسائل النسب والقبيلة لدرجة تقف عائقا يعطل الفتاة عن الزواج مدى حياتها، ومنهم من يرفض تزويج ابنته طمعًا في راتبها الشهري، ومن بينهم كذلك من يقدم الأعراف والعادات التي لا تمت للإسلام بصلة، وفي كل هذا مؤشر يعبر عن مدى قرب قيمنا وأعرافنا عن قيم الإسلام الصحيحة.

لقد تباطأنا كثيرًا في الأخذ بالعلاج الإسلامي، حتى تفاقمت هذه المشكلة إلى حد ينذر بالخطر، وعلى الرغم مما تقوم به بعض الجمعيات الخيرية من مساع حميدة كفكرة حفلة الزواج الجماعي التي انطلقت في عدد من البلدان العربية؛ لتوفير مصروفات حفلة مستقلة لكل زوجين، إلا أن هذه الجهود وحدها لا تكفي لمواجهة مشكلة خطيرة بهذا الحجم، إذ يجب أن تضع الحكومات العربية هذه القضية ضمن الأولويات التي تسعى لمعالجتها من خلال مواجهة مشكلة البطالة، وارتفاع الأسعار وإحداث ثورة معرفية كبرى لترقية الوعي المجتمعي ونشر قيم الإسلام وفضائله.

لقد أضحت ظاهرة العنوسة والمطلقات والأرامل مشكلة أمن قومي عربي، إن لم تتضافر الحكومات المخلصة لمواجهتها، فإن القيم والأخلاق والهوية باتت مهددة بشكل غير مسبوق عن أي وقت مضى.



03‏/01‏/2014

الحوار مع المخالفين بقلم/ محمد بن عبد السلام الأنصاري


لقد كان من سنن الله الكونية وجود الاختلاف بين الناس؛ وتباين عقائدهم ونحلهم؛ وتفرق آرائهم وأهوائهم؛ وهو مصداق قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ... ﴾ [هود: 118، 119].

وهذا الاختلاف الكوني واقع لا محالة؛ وهو من الابتلاء والتمحيص الذي بلي به بنو آدم بعضهم من بعض.

وقد أمر الله عز وجل المؤمنين الذين هم حملة الحق ومشاعل الهدى بدعوة غيرهم إلى الهدى ودين الحق الذين يحملونه؛ وكان أول المأمورين بذلك هم صفوة البشر من الرسل والأنبياء؛ كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... ﴾ [النحل: 125]. والخطاب إليهم خطاب للمؤمنين بالتبع.

وإن من أوائل طرق تبليغ الدعوة وأساليبها: أسلوب الحوار؛ فهو من أنجع الوسائل؛ ومن أقرب الطرق للوصول إلى المدعو، حيث تزاح الحواجب، وتقل الوسائط بين المرسل والمتلقي.


وللحوار أهمية بالغة في الدعوة إلى الله تعالى، ويبين تلك الأهمية الحوارات التي جرت بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين أممهم، ومن أمثلة ذلك:


الحوار الذي جرى بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبين قومه عبدة الكواكب؛ حيث توصل بمحاورتهم إلى إبطال عقائدهم الفاسدة، وقد سجل القرآن ذلك الحوار كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[الأنعام: 74-81].


وفي موقف آخر لحوار الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه وقومه يعرض القرآن ذلك الحوار بأبهى حلة في دلالة واضحة لمكانة الحوار في الدعوة إلى الله تعالى ومكانته في إثبات الحجة وقطع ما يتشبث به المشركون؛ حيث ذكر تعالى ذلك في قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 51 - 70].


والحوار كما هو مطلوب مع المخالفين في المعتقد؛ فهو من باب أولى مطلوب مع الموافقين في الأصول؛ ولا يمكن إزالة الشبه العالقة في أذهان المخالفين عمومًا إلا باستنطاقهم ومجالستهم والحوار معهم.


ولذلك كان من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة بعض السلوك المنحرف أو الاعتقاد الخاطئ محاورته لأصحابه رضوان الله عليهم وتصحيح ما قد يقعون فيه من أخطاء؛ ومن أبين ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده (36/ 545) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: ) إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: " ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ". قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: " أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ ". قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: "( اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ " قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ )


فانظر أخي الكريم في هذا الحوار النبوي الراقي كيف أقنع ذلك الشاب الذي تتوقد الشهوة في جسده؛ وجعله لا يلتفت إلى انتهاك أعراض المسلمين؛ ولا النظر إلى فاحشة الزنا مرة أخرى.


وقد انتهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنهج في جعل الحوار أساسًا من أساسيات الدعوة وتبليغ الرسالة وإقامة الحجة على المخالفين.


وقد ذكرت كتب التاريخ والسير حادثة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكيف أرجع منهم الآلاف بإرسال ابن عباس رضي الله عنهما إليهم عندما ناظرهم وحاورهم؛ وبين لهم خطأ طريقهم وخطورة خروجهم على إمام المسلمين.

فالحاصل أن الحوار أساس من أسس الدعوة إلى الله تعالى؛ وركيزة أساسية لتبليغ الرسالة؛ ومنهج نبوي؛ ونهج راشدي؛ سار عليه الأئمة والعلماء.

ومن بيده الحق وهو على صراط مستقيم لا يخشى من الحوار؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه؛ بل الحوار من وسائل أهل الحق؛ ولا يخشى من الحوار إلا من لا يملك من الحجة ما يدافع به عن معتقداته وآرائه.