مدونة المعارف

22‏/04‏/2010

العلم الشرعي والعلم الدنيوي

بسم الله الرحمن الرحيم

وبعد:

أورد الذهبي في تاريخ الإسلام ما مفاده :

أن العلَم العالم بقي بن مخلد رحمة الله عليه رحل من الأندلس إلى بغداد ليلقى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ويحدث عنه الحديث ، وكان قد علم قبل دخوله البلد أن الإمام أحمد قد منع من مقابلة الناس أيام المحنة بالقول بخلق القرآن فقال عنه:
فخرجت أستدلّ على منزل أحمد بن حنبل ، فدُللت عليه. فقرعت بابه، فخرج إليَّ ، فقلت: يا أبا عبد الله رجل غريب نائي الدّار، وهذا أول دخولي هذا البلد، وأنا صاحب حديث، ومقيَّد سنّة. ولم تكن رحلتي إلاّ إليك يا إمام . فقال: ادخل ، ولا يقع عليك عين (إياك أن يراك أحد ). فدخلت. فقال لي: وأين موضعك؟ (يعني من أين أتيت؟) قلت: المغرب الأقصى. قال: إفريقيّة؟ فقلت له: أبعد من إفريقيّة. من الأندلس. قال له: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحبَّ إليَّ من أن أُحسن عون مثلك، غير أنيّ ممتحَن بما لعلّه قد بلغك.
قلت له: بلى، لقد بلغني، وهذا أوّل دخولي، وأنا مجهول العين عندكم (غير معروف عندكم في البلد)، فإذا أذنت لي أن آتي كلَّ يوم في زيّ السّّائلين (الشحاذين) ، فأقول عند الباب ما يقوله السّائل، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني كلّ يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية. قال لي: نعم على شرط أن لا تظهر في حلقات العلم ، ولا عند المحدِّثين. فقلت: لك شرطك. فكنت آخذ عوداً بيدي، وألف رأسي بخرقةٍ مدنسَّة وآتي بابه، فأصيح: الأجر، رحمكم الله، (وكان الشحاذون يقولون ذلك) ، فيخرج إليَّ ويغلق الباب، ويحدّثني بالحديثين، والثلاثة، والأكثر. فالتزمت ذلك حتّى مات الممتحِن له وولي بعده من أحسن إلى الإمام أحمد ، فصار طلاب العلم يفدون إليه من كل مكان ، فكان يعرف لي حقّ صبري، فكنت إذا أتيت حلقته فسحٍ لي، ويقصّ على أصحاب الحديث قصّتي معه. فكان يناولني الحديث مناولةً، ويقرأه عليه. ومرضت مرة ، فعادني في خلقٍ معه (زاره في بيته ومعه خلق كثيرون )."
ومازالت الصور المشرقة لصبر علماء الإسلام على طلب العلم وتحمل المشاق من أجل ذلك ... تتابع على مدى الدهور والأعوام حتى في زمننا هذا ..
نرى مثلا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وهو في بداية حياته يطلب الحديث ويجمع السنة ويصبر على ما لاقى من أذى وإبعاد عن بيته ، وعمله في بعض الحرف البسيطة لجمع ما يعينه على معيشته وحياته ..
ولئن كان طلب العلم الشرعي عزيزا يحتاج همة عالية ونفسا تواقة للخير فإن الجمع بين علم الدنيا وعلم الآخرة أعز وأعسر .. ففيه أولا من الذود عن حياض المسلمين في المجالين جميعا ما لا يخفى على أحد وهو محتاج لصبر وطول نفس مع ما في زمننا هذا من قلة المعين وضعف الناصر ...
ومن الأمثلة الحية على من جمع بين علم الدنيا والدين في زمننا مشايخ أجلاء من أمثال الشيخ محمد بن إسماعيل والشيخ محمد بن صالح المنجد والشيخ طارق السويدان وغيرهم ممن خفوا علينا وهم لا يخفون على ربنا عز وجل ...
إن تشعب العلوم حاليا قد ضرب شأوا كبيرا وتفرعا عظيما مما لا يدع فرصة للإلمام بعدة علوم إلماما كاملا .. ولكن مع حسن القصد وإخلاص النية لله عز وجل واستغلال العمر والوقت استغلالا جيدا فإن الله تعالى يمنح من هذه صفاته – يمنحه البركة ولا شك ، وإذا بارك الله تعالى فليس لبركته منتهى ...
وليس بخاف على أحد ما تحتاجه الأمة حاليا من علماء شرعيين ذوو فقهِ واقع مدركين للمتغيرات الحديثة المحيطة بهم قادرين على تطبيق شرع الله تعالى عليها بعد علمها علما كافيا ...
لذا أقول لطلاب العلم الأعزاء ...
القصدالقصد..
وعلو الهمة يا شباب ... فإن العمر قصير ، والدين عزيز والعدو متربص بنا كل متربَّص .. فإياكم والتخاذل .. هيا شدو الهمة .. وشمروا عن ساعد الجد ... واحملوا هم دينكم وهم أمتكم ... وإياكم وطيش الشباب .. وعليكم بحكمة الشيوخ .. اقتدوا بهم وانهلوا من خبرتهم وتلمسوا الطريق قبل أن تخطوا فيه بأرجلكم .. فإن الأعداء قد نصبوا لكم الكثير من الشرَك في طريق سيركم الحثيث لإعلاء دينكم ورفعة عقيدتكم..

طلابَ العلم الشرعي ..
أحسنوا النية في طلبكم العلم وأخلصوها لله وحده ، فإنكم إن لم تفعلوا هلكتم وأهلكتم ، وإن فعلتم نصركم الله في الدنيا وأعزكم ثم أثابكم ورفعكم يوم الدين .
إياكم وتوابع الخلاف ، فإن الخلاف شر ، ولا زلنا نعاني شروره وعواقبه ممن سبقونا في العهد القريب من قوم لم يكن لهم هم إلا تتبع عثرات عمرو أو أخطاء زيد .. وليس هذا وربي ذو فائدة ...{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}
بلغوا العلم للمسلمين فأنتم الموقعون عن رب العالمين .. أنتم ناقلوا الدين .. وحماة الشريعة ، وإياكم والتدليس والتغيير من أجل حظ دنيوي أو متاع زائل ، فمن فعل فلينتظر العقاب الأليم من رب العالمين .

طلاب العلم الدنيوي ...
اطلبوا علمكم لله ، من أجل الدفاع عن المسلمين وإعزازهم ورفعتهم كما كانوا قبل قرون ليست بالبعيدة ..
إياكم أن تكونوا بطلبكم العلم الدنيوي قد غفلتم عن الآخرة فإنكم حينها تكونون بمثابة غير العالم شيئا أصلا ... ألم تسمعوا قول الله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}.
استغلوا جميعا فضول أوقاتكم ولا تضيعوها هدرا وليكن أول همكم كتاب الله عز وجل ثم ما يليه ...
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

10‏/04‏/2010

السيئات الجارية

يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].الناس بعد الممات ينقسمون قسمين باعتبار جريان الحسنات والسيِّئات عليهم:القسم الأول: من يَموت وتنقطع حسناته وسيئاته على السَّواء، فليس له إلا ما قدَّم في حياته الدُّنيا.القسم الثاني: من يَموت وتبقى آثارُ أعماله من حسناتٍ وسيئاتٍ تجري عليه، وهذا القسم على ثلاثة أصناف:الأول: من يَموت وتجري عليه حسناتُه وسيئاته، فمثل هذا يتوقَّف مصيره على رجحان أيٍّ من كفَّتَي الحسنات أو السيئات.الثاني: من يَموت وتنقطع سيئاته، وتبقى حسناته تَجري عليه وهو في قبره، فينال منها بقدر إخلاصه لله -تعالى- واجتهاده في الأعمال الصَّالحة في حياته الدُّنيا، فيا طيب عيشه، ويا سعادته.الثالث:من يموت وتنقطع حسناته، وتبقى سيئاته تجري عليه دهرًا من الزَّمان إن لم يكن الدَّهر كله، فهو نائم في قبره ورصيده من السيئات يزدادُ يومًا بعد يوم، حتَّى يأتي يوم القيامة بجبال من السيئات لم تكن في حُسبانه، فيا ندامته ويا خسارته.