مدونة المعارف

‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسلامية مفيدة جدااا. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسلامية مفيدة جدااا. إظهار كافة الرسائل

01‏/09‏/2015

سؤال وجواب مهم

السؤال:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أكرمني الله بعائلةٍ مُحِبَّة للخير، تنسى الإساءة، وتُكرم الضيف، وتُحسن إلى اليتيم وتَصِل الرَّحِم، لكن للأسف كلُّ هذا يقابَل بالإساءة من الآخرين، ولا نجد مَن، يعترف بالجميل، بل قد يصل الأمر إلى الظلم والعنف والإساءة للسمعة والتجريح!
هذه المشكلةُ تُعاني منها عائلتي كلها - بكل أسف - وهنا السؤال:
هل نحن مخطئون بكثرة الإحسان لغيرنا؟ أو أن ما يحدث لنا قد يكون بسبب ذنوبنا؟ وماذا عسانا أن نفعلَ؟
الإجابة:الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
عظيمٌ أن يُرْجِعَ المسلم ما يَمُرُّ به من ابتلاءاتٍ إلى ذنوبه؛ فيدفعه هذا إلى التوبة العامة والخاصة؛ أعني: التوبة منالذنوب عامة، ومما اقترف مِن سيئة معينةٍ.
أما شكْواك مِن نكران الناس للمعروف، وجميل الصفات؛ فهذا كثيرٌ في الخلْق، إلا ما ندر، وهو اختبارٌ وامتحان للعبد فيما أنعم الله عليه مِن نِعَمٍ، وهذه حكمةُ الله في خلْقِه؛ خَلَقَ ليبتلِيَ ويمتحنَ ويختبرَ، فيظهر في العيان وواقع الناس ما كان مكنونًا داخل النفس، ومِن ثَم يترتب عليه آثارُه المقَدَّرة في كيان الوجود، وفق ما يظهر مِن نتائج ابتلائه.
فالحياةُ كلها - أيتها الفاضلة - ابتلاءٌ وامتحانٌ؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، فالاختبارُ محكُّ الإيمانِ، ويتبين به الصادقُ مِن الكاذب، والمؤمنُ مِن المنافق، والطيبُ مِن الخبيث، فمَن صبر نجا مِن فتنة أعظم منها، ومَن لم يَصْبِرْ عليها وقَع في فتنة أشد منها.
فالفتنةُ في كل شيءٍ لا بد منها في الدنيا؛ ليعلمَ الصادق مِن الكاذب، لا سيما إن كان في الأعمال المتعدِّية للغير؛ كالصدقة، ليظهر هل يفعله لله فيصبر ويحتسب ويستمر؟ أو فعَلَهُ لغير الله؛ كحبّ الصيت، فيتحسر ويترك العمل.
فالعلاجُ الناجعُ لشكواكِ - أيتها الابنة الكريمة - هو إخلاص العمل لله، ومراقبته، واحتساب الأجر عنده سبحانه، وتحمُّل الأذى فيه، وهذا يتطلَّب استعانةً عظيمةً بالله.
واعلمي - أيتها الفاضلة - أنَّ الله تعالى امتحن عبادَهُ بعضهم ببعض؛ كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].
وهذا عامٌّ في جميع الخلْقِ، امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسلَ بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم، وتحمُّل المشاقّ في تبليغهم رسالات ربهم، وامتحن المرسل إليهم بالرسل، وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم؟ أو يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم؟
وامتحن العلماء بالجهال؛ هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم ولوازم ذلك؟ وامتحن الجهال بالعلماء، هل يطيعونهم ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوك بالرعية، والرعية بالملوك، وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء، وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة.
وامتحن المالك بمملوكه، ومملوكه به، وامتحن الرجلَ بامرأته وامرأته به، وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والمؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، وامتحن الآمرين بالمعروف بمَن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم؛ ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم مِن أتباع الرسل فتنةً لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل، وقالوا: {لَوْ كانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إلَيْهِ} [الأحقاف: 11] وقالوا لنوح - عليه السلام -: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53].
فإذا رأى الشريفُ الرئيسَ المسكينَ الذليلَ قد سبَقه إلى الإيمان ومُتابَعة الرسول، حمي وأنف أن يُسلمَ، فيكون مثله، وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حدٍّ سواء؟
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]: قال الزجاج: "أي أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون".
قرن الله سبحانه الفتنةَ بالصبر ها هنا، وفي قوله: {ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110]، فليس لمن قد فُتِنَ بفتنة دواءٌ مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة مُمَحِّصة له، ومخلِّصة من الذنوب، كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة؛ قاله ابن القيِّم في إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 160-162)
فالنفسُ الإنسانيةُ مليئةٌ بالانحرافات والالتواءات، والرغائبِ وأهواءِ القلوبِ، مِن الحرص والشُّحّ وحبِّ الخير للذات، وألوان غيرها كثير مِن ذوات الصدور، والدينُ الإسلامي عالَج هذا كله لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عمليةٍ واقعةٍ.
والشعراءُ والأدباءُ والمصلحون أشاروا لشيءٍ مِن تلك الالتواءات النفسية، ومِن أروع ما قيل قولُ أبي الطيب المتنبِّي:
وَمَا قَتَلَ الأَحْرَارَ  كَالعَفْوِ  عَنْهُمُ        ومَنْ لَكَ بِالحُرِّ الَّذِي يَحْفَظُ اليَدَا
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ  الكَرِيمَ  مَلَكْتَهُ        وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ  اللَّئِيمَ  تَمَرَّدَا

فاثْبُتي على فِعْلِ الخير أنت وأسرتك، وأدِّي الذي عليك في مُواجهة التواءات النفس البشرية وجهْلِها، واعتزازها بما ألِفَتْ واستكبارها، واصبروا على التكاليف الإسلامية وعلى أذى الناس؛ حتى يحكمَ الله في الوقت المقدَّر كما يريد، واجعلي دائمًا نصب عينك هذه الآية الفاذة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
وفقنا الله وجميع المسلمين للعمل بالكتاب والسنة.

21‏/08‏/2014

التأهب للموت قبل نزوله .

والمبادرة بالعمل الصالح والسعي النافع قبل دهوم البلاء وحلوله، وهو - المقصود الأعظم - إذ هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار وهو الفصل بين ساعة العمل والجزاء عليه، والحد الفارق بين أوان تقديم الزاد والقدوم عليه، إذ ليس بعده لأحد من مستعتب ولا اعتذار، ولا زيادة في الحسنات ولا نقص من السيئات، ولا حيلة ولا افتداء ولا درهم ولا دينار ولا مقعد ولا منْزل إلا القبر وهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إلى يوم البعث والجزاء وجمع الأوَّلين والآخرين وأهل السموات والأرضين والموقف الطويل بين يدي القويِّ المتين، يوم يقوم الناس لرب العالمين الحكيم العليم المقسط العدل الحكيم الذي لا يحيف ولا يجور ولا يظلم مثقال ذرة إن ربي على صراط مستقيم، ثم إما نعيم مقيم في جنات النعيم، وإما عذاب أليم في نار الجحيم، وإنَّ لكل ظاعن مقراً ولكل نبأ مستقراً وسوف تعلمون، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99 – 100] الآيات، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ[الحشر:18] الآيات، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9 – 11] وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ [الشورى:44] وهذا سؤالهم الرجعة عند الاحتضار، وكذلك يسألون الرجعة عند معاينة العذاب يوم القيامة كما قال تعالى: وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ [إبراهيم:44] الآيات. وكذلك يسألون الرجعة إذا وقفوا على النار ورأوا ما فيها من عظيم الأهوال وشديد الأنكال والمقامع والأغلال والسلاسل الطوال وما لا يصفه عقل ولا يعبر عنه مقال ولا يغني بالخبر عنه ضرب الأمثال كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27 – 28] الآيات، وكذلك يسألون الرجعة إذا وقفوا على ربهم وعرضوا عليه وهم ناكسو رؤوسهم بين يديه كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] الآيات، وكذلك يسألون الرجعة وهم في غمرات الجحيم وعذابها الأليم كما قال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] الآيات، وقال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ [غافر:11] وغيرها من الآيات. ويجمع كل ذلك قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأعراف:53] وغيرها من الآيات. وقال قتادة في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [المؤمنون:99], قال كان العلاء بن زياد يقول: لينَزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة ربه تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلاّ أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((إذا وضع – يعني الكافر – في قبره فيرى مقعده من النار قال فيقول: ربِّ ارجعون أتوبُ وأعملُ صالحاً، قال فيقال: قد عُمِّرت ما كنت معمراً. قال فيضيق عليه قبرُه ويلتئِمُ فهو كالمنهوشِ ينام أو يفزع تهوي إليه هوام الأرض وحيَّاتها وعقاربها))  . وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أَنَّ الله هداني، فتكون عليه حسرة. قال: وكلُّ أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أَنَّ الله هداني قال فيكون لهم الشكر))  ... وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم ((بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها)) الحديث  .وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصِّحةُ والفراغ))  . وللحاكم عنه رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ وهو يعظه: ((اغتنم خَمْساً قبل خَمْس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) 
 , يعني: أن هذه الخمس أيام الشباب والصحة والغنى والفراغ والحياة هي أيام العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد، فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه التمني للأعمال، بعد التفريط منه والإهمال، في زمن الفرصة والإمهال، فإن بعد كل شباب هرماً، وبعد كل صحة سقماً، وبعد كل غنىً فقراً، وبعد كل فراغ شغلاً، وبعد كل حياة موتاً، فمن فرط في العمل أيام الشباب لم يدركه في أيام الهرم، ومن فرط فيه في أوقات الصحة لم يدركه في أوقات السقم، ومن فرط فيه في حالة الغنى فلم ينل القرب التي لم تنل إلاّ بالغنى لم يدركه في حالة الفقر، ومن فرط فيه في ساعة الفراغ لم يدركه عند مجيء الشواغل، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات، ويطلب الكرة وهيهات، وحيل بينه وبين ذلك وعظمت حسراته حين لا مدفع للحسرات. ولقد حثَّنا الله عز وجل أعظم الحث وحضنا أشد الحضَّ ودعانا إلى اغتنام الفرص في زمن المهلة وأخبرنا أن من فرط في ذلك تمناه وقد حيل بينه وبينه إذ يقول تعالى: في محكم كتابه داعياً عباده إلى بابه يا من يسمع صريح خطابه ويتأمل لطيف عتابهقُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:53 – 59], الآيات. وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [الروم:43] الآيات. وقال تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ [الشورى:47] الآيات. وغيرها. 

27‏/05‏/2013

وسائل معينة على المداومة على العمل الصالح

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أحب العمل إلى الله ما دوام عليه صاحبه وإن قلَّ، لكن السؤال المهم هنا هو: ما هي الوسائل التي تعين المرء على المداومة على العمل الصالح؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الأسطر بإذن الله تبارك وتعالى، فنقول:
إن ثمة وسائل تعين المرء على الاستمرار والمداومة على العمل الصالح منها:
أولاً: العزيمة الصادقة، والثبات عليها: يحدثنا عن أهمية ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله فيقول: "كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص، فإذا انضم الثبات إلى  العزيمة أثمر كل مقام شريف، وحال كامل"1، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد))2؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أتي العبد إلا من تضييعهما، أو تضييع أحدهما، فما أُتي أحد إلا من باب العجلة والطيش، واستفزاز البداءآت له، أو من باب التهاون والتماوت، وتضييع الفرصة بعد مواتاتها، فإذا حصل الثبات أولاً، والعزيمة ثانياً؛ أفلح كل الفلاح"3.
ثانياً:الاقتصاد في العبادة، وعدم الإثقال على النفس بأعمال تؤدي إلى المشقة، وتفضي إلى السآمة والملل من العبادة فقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: "أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قلَّ))، وقال: ((أكلَفوا من الأعمال ما تطيقون)) رواه البخاري (6100)، وحذَّر صلى الله عليه وسلم من الغلوِّ والتشدُّد فجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)) رواه البخاري (39).
فعلى المرء المسلم أن تكون عبادته قصداً لا إفراط ولا تفريط، بل تكون على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((لكل عمل شرة، ثم فترة، فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضلَّ، ومن كانت فترته إلى سنَّة فقد اهتدى))4 يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: "قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل، فكل الخير في اجتهاد باقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع كما قال بعض الصحابة: "اقتصاد في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة"، فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم"5، و لما دخل صلى الله عليه وسلم المسجد رأى حبلاً ممدوداً بين ساريتين، فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا.. حلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد)) رواه البخاري (1099)، ومسلم (784).
ثالثاً: قراءة القرآن بتدبر وتعقل: فإن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهو وسيلة من وسائل الثبات والتثبيت على المداومة على العمل الصالح، وهو الذي ربى الأمة َوأدبها، وزكى منها النفوس، وصفى القرائح، وأعلى الهمم، وغرس الإيمان في الأفئدة، وفي قراءته تثبيت لقلب القارئ المتدبر لما يقرأ؛ لأنه يقرأ آيات الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من تركه كقوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(المنافقون:10-11).
رابعاً: الإكثار من تذكر الموتِ: فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإكثار من ذكر الموت فقال: ((أكثروا من ذكرَ هاذمِ اللذات))6 أي الموت، فمن أكثر من ذكر الموت نَشَط في عمله، ولم يغتر بطول أمله؛ بل يبادر بالأعمال قبل نزول أجله، ويحذر من الركون إلى الدنيا.
خامساً: صحبة الأخيار: الذين يعينون على طاعة الله عز وجل؛ فإن الإنسان ينشط للقيام بالطاعة حين يرى أن إخوانه من حوله مقيمون عليها، وقد يشعر بالخجل من نفسه إن رآهم على طاعة وهو مقصر، فلهذا كانت صحبة الأخيار، وأهل الفضل والصلاح الذين إذا رآهم الإنسان ذكَّرته رؤيتهم بالله عز وجل وبطاعته؛ محل اهتمام الإسلام.
سادساً: التعرف على سير الصحابة والسلف الصالح: من خلال القراءة للكتب، أو سماع الأشرطة، فإنها تبعث في النفس الهمة والعزيمة، وقد أحسن من قال:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم     إن التشبه بالكرام فلاح
سابعاً: الدعاء وسؤال الله الثبات، والاستمرار على العمل الصالح: فإن الله سبحانه قد أثنى على الراسخين في العلم أنهم يسألون ربهم الثبات على الهداية: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(آل عمران:8)، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعاءه أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))7، وأوصى عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل رضي الله عنه بأن يدعو بعد كل صلاة أن يعينه ربه على ذكره وشكره فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك))، فقال: ((أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك))8، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((رب أعنِّي ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ..))9، فالتوفيق والعون من الله وحده، وقد أحسن من قال:
إذا لم يكن عون من الله للفتى    فأول ما يجني عليه اجتهاده
ثامناً: المحافظة على النوافل: ولو كانت قليلة، وذلك بعد المحافظة على الفرائض، لأن في المحافظة على النوافل صيانة وحماية للفرائض.
تاسعاً: الإكثار من ذكر الله، والاستغفار: فإنه عمل يسير، ونفعه كبير، يزيد الإيمان، ويُقوي القلب، ويبعد عن الغفلة.
عاشراً: البعد عن المعاصي: فإن المعصية تجر إلى أختها، ومن عقوباتها أنها: تحرم العبد لذة العبادة، فتكون مدعاة لترك العمل.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان والعمل الصالح، وأن يجعلنا صالحين مصلحين، لا ضالين ولا مضلين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

1 طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/400-401) لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق : عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم - الدمام، ط. الثانية (1414هـ).
2 رواه أحمد (17155) ، وابن حبان في صحيحه برقم (935). وقال محققو المسند: "حديث حسن بطرقه، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه؛ حسان بن عطية لم يدرك شداد بن أوس، ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين".
3  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/142) لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، دار الكتب العلمية - بيروت.
4 رواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2105 )، وأحمد في مسنده برقم (23521)، وقال محققو المسند ومنهم شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح".
5 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/108) لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي - بيروت، ط. الثانية (1393-1973).
6 رواه الترمذي برقم (2307)، والنسائي برقم (1824)، وابن ماجة برقم (4258)، وقال الألباني: "حسن صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3333).
7 رواه الترمذي برقم (2140)، وقال الألباني: "حسن" كما في السلسة الصحيحة برقم (2091).
8 رواه أبو داود برقم (1522)، وأحمد برقم (22179)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1596).
9 رواه أبو داود برقم (1510)، والترمذي برقم (3551) وابن ماجة برقم (3830)، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الأدب المفرد برقم (665).

الطفله سلسبيل بكت وابكت الرجال من أجل مئآت اليه الامة الاسلامية

07‏/01‏/2010

خاص بالنساء


حتى تكوني أبهى فتاة في الكون
أنت بجمالك أبهى من الشمس
وبأخلاقك أزكى من المسك
وبتواضعك أرفع من البدر, وبحنانك أهنأ من الغيثفحافظي على الجمال بالإيمان... وعلى الرضا بالقناعةوعلى العفاف بالحجابواعلمي أن حليّك ليس الذهب والفضة والألماسبل ركعتان في السحر.. وظمأ الهواجر صياماً لله وصدقة خفية لايدري بها إلا الله.. ودمعة حارة تغسل الخطيئة وسجدة طويلة على بساط العبودية..وحياء من الله عند داعي الشيطان فالبسي لباس التقوى ..
فأنت أجمل إمرأة في العالم وارتدي عباءة الحشمة ..
فأنت أبهى إنسانة في الكون.

29‏/06‏/2008

بناء المجتمعات


الإسلام كما أنه دين رباني فهو نظام اجتماعي يربط المرء بريه وبالآخرين؛ فالفروض الشرعية كالصلاة والصدقة ونحوها هي أشكال اجتماعية تنحو إلى بناء مجتمع متكاتف فيما بينه. إلا إننا نلحظ أن هذا البناء الاجتماعي فقد حسه لدى بعض الناس حتى ظن الجاهل أن تخلفنا هو بسبب بنيتنا الاجتماعية، وتصور أن تطورنا يكون بتقليد الأمم المتقدمة مادياً، تقليداً في السلوك والثقافة والفكر ولم يتوقف الأمر على ذلك بل اتجه إلى ما هو أعمق وأخطر وهو تقليد المنهج.
وهذا تصور ساذج سطحي فأمتنا قوتها في تفردها وتميزها عن المناهج الأرضية فمنهجها الاجتماعي مختلف لأن أصوله تنبع من الوحي؛ ولهذا عندما أصبحنا صدى سيء للمنتج الفكري والثقافي والسلوكي الغربي والشرقي، كان ذلك من أشد الأسباب للتفكك والفوضى الاجتماعية التي نعيشها. فتقليدنا للآخر فقدنا القدرة على الإبداع والإنتاج والتنافس. فلبناء مجتمعا مستقلاً متميزاً فريداً لابد أن يكون ذلك البناء على منهج القرآن والسنة والتي أثمرت مجتمعاً فريداً لم يرى التاريخ مثله.
وبعد البناء الإيماني لابد أن يكون لدى المرء هماً ذاتياً يحدث له تغيرا خارجياً ينقله من السكون والخمول والعادات السلبية إلى الحركة والبناء، ففقدان الهم الداخلي يجعل المرء بعيداً عن المساهمة في البناء والتكوين، لذا من المهم جداً أن نهتم بأفكارنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا في حياتنا اليومية إذ هي تساهم بجزء ما في تشكيل عالمنا وبالتالي تشكيل المجتمع.
ولا يكتفي المرء بالمراقبة الذاتية؛ بل من المهم أيضاً أن يسأل المرء نفسه: على ماذا بنيت علاقتي بالآخرين؟ هل هي مبنية على الحب في الله تعالى والتآخي أم مبنية على المصلحة والضرورة الاجتماعية؟ فأساس بناء العلاقات بين الآخرين له دور في تكوين وتشكيل المجتمع فالحقد والبغضاء والحسد والرغبة في التصدر وعدم احترام الآخرين وغيرها من السلوكيات والعادات السيئة تظهر نتيجتها ـ بطريقة ما ـ في علاقاتنا مع بعضنا وبالتالي يُبنى على هذا العلاقات المجتمع، والتي تكون نتيجته محاولة الهروب من المجتمع وتشكيل مزيداً من المأساة في المجتمع.
ولو تأملنا قليلاً في الفوضى والفساد والمآسي التي يعشها مجتمعنا نجد أننا نشكل جزءا من إحداث هذه الفوضى والمآسي، نحن شكلناها على وفق علاقاتنا مع بعضنا بعض ووفق ما بأنفسنا، فإذا كانت الفوضى والمأساة والاضطراب في ذواتنا فإنها تنعكس على عالمنا الخارجي وبالتالي يتشكل مجتمعنا بهذه الصورة، فالمجتمع ـ في إحدى صوره ـ هو علاقة بيني وبينك، وهو نتيجة لهذه العلاقة، فإذا كانت علاقاتنا فوضوية أنانية فالمجتمع يكون كذلك.
ويتساءل المرء: هل يمكن أن يكون هناك مجتمعا ساكنا خاملا وأفراده متحركين منفعلين؟
بالطبع لا يمكن، لأن المجتمع نتاج الأفراد، فتلك المجتمعات التي أحدثت تغيراً جذرياً في بنيتها وتركيبها لا يمكن أن يحدث لها ذلك ما لم يكن هناك تغيراً جذرياً داخلياً في الأفراد، فالاهتمام بالظواهر والشكليات والماديات الخارجية في سبيل التغيير الاجتماعي هو بناء غير تأسيسي حيث عكست القاعدة فجعلت القاعدة فوق البناء. فلبناء مجتمعاً إيمانياً عملياً منظماً علينا أن نتجه للفرد من الداخل، نتجه لعقيدته وتصوراته وأحاسيسه ومشاعره وأفكاره ومفاهيمه علينا أن نخاطب هذه المنظومة خطاباً بناءاً تجديدياً، نزيل ما بالنفس من خرافات وبدع ومفاهيم مغلوطة وتصورات خاطئة عن الإنسان والحياة والكون وقبلها عن الدين فالمعالجة الاجتماعية لا تنجح ما لم يسبقها معالجة داخلية للفرد.هذه نقطة جوهرية وليست شكلية، فالمعالجة الخارجية لا تحدث تغير جذري وبناء تكاملي؛ بل التغيير المجتمعي الخارجي دون البناء الذاتي هو كبناء غطاء جميل على كومة من المتلوثات مع مرور الوقت يفسد هذا الغطاء ويظهر ما به من آفات.
إننا نرى في المجتمع قضايا وليدة مستحدثة غريبة على مجتمعنا، نرى تشققات في بعض نواحي مجتمعنا تتطلب حلولاً سريعة ومعالجات إبداعية، الأمر يتطلب تحركاً سريعاً ذاتياً داخلياً أولاً ثم تحركاً مجتمعياً؛ ويكون هذا التحرك مبنياً على إدراك أسباب ضعف المجتمع كي نعيد بناءه من جديد على أسس إيمانية ربانية بعيدة عن تقليد الغرب والشرق، فمجتمعنا لابد أن يكون له خصوصيته وتفرده، وأعيد؛ فلسنا كالمجتمعات الأخرى؛ فنحن أصحاب منهج رباني يتميز عن أي منهج أرضي وبالتالي لابد أن يتميز أصحاب هذا المنهج عن غيرهم في التعامل مع الإنسان والحياة ككل.
ويتساءل المرء: هل الفرد مجرد آلة في المجتمع أو هو نهاية المجتمع؟ هل المجتمع وجد من أجل الفرد؟ هل أنت وأنا كأفراد يتحكم فينا المجتمع والدولة في التوجيه والتعليم والتثقيف والتشكيل ؟ هناك من يرى أن المجتمع هو الذي يشكل الفرد وبعضهم يرى العكس. فإذا كان الفرد مجرد آلة في المجتمع، فالمجتمع يكون أكثر أهمية من الفرد، فعلينا أن نتخلى عن الفردية ونعمل من أجل المجتمع فتكون الأنظمة الاقتصادية والتعليمية والتثقيفية بالكامل متجه إلى البناء المجتمعي ونتخلص من الفردية ونجعل الفرد كآلة لخدمة المجتمع. أما إذا كان العكس بأن وجد المجتمع من أجل الفرد فلا تكون وظيفة المجتمع تشكيل الفرد وإنما إعطاءه الحرية والقيمة الفردية لتشكيل ذاته وبناء أفكاره.
والحقيقة أن العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة تكاملية وإن كانت المصلحة الاجتماعية تقدم على المصلحة الفردية عند التعارض إلا إن الفرد لا يفقد حقه بل يعوض ما فقده من أجل المحافظة على حقوقه وبالتالي المحافظة عليه فكراً وسلوكاً وانضباطاً. فالعلاقة تكاملية فلا يمكن أن يعيش الإنسان دون مجتمع يعيش فيه ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي دون الأفراد، فعلى الأفراد أن يقوموا بمهام اجتماعية كي يكون المجتمع أكثر انتظاماً وقدرة على حماية وصيانة أفراده؛ فكما أن الفرد يريد من المجتمع أشياءً فعليه أن يقدم هو للمجتمع شيئاً. وهذه ليست ميزة فريدة للإنسان بل حتى الحيوانات تحتاج أن تعيش في مجتمع. وهذا خلاف ما يذهب إليه الفكر الغربي الحديث والذي يعمل على غرس الفردية وتعزيز الانفصال عن المجتمع وجعل الحقوق الفردية لها الأولية والأسبقية وخصوصاً بعد سقوط النظام الشيوعي وسيطرة الرأسمالية. إذ أصبح الفرد يعيش لذاته ولهمومه الشخصية.
ولو تأملنا المجتمع في نظر أحد فلاسفة الغرب وهو "نيتشه" مثلاً والذي يمثل لديه المجتمع الحضاري هو المجتمع القوي، إذ يرى أن ضعفاء المجتمع يجب أن يقضى عليهم، وأن يفنوا فلا يحق لهم أن يعيشوا فهم مصدر كل شر وبلاء، إذ أشد الرذائل ـ في نظره ـ الشفقة على الضعفاء. ويذهب أيضا إلى أن مجتمعات العالم الحديث تظهر لنا طبيعة الإنسان أكثر مما يظهره الأفراد. فالدول لها القدرة أن تتصارع فيما بينها بخلاف الأفراد فهم ليس لديهم القوة والشجاعة لذلك، والدولة تدخل في الصراع بتقسيم الأدوار بين الأفراد فلا يشعر أحد من الأفراد بالمسؤولية تجاه عمل الدولة. فسلوك الدولة هو الحرب والصراع والعمل وفق مبدأ "إرادة القوة". وعن طريق القوة لا مجال للفرد إلا الامتثال والانصياع فهي تعزز في شعبها قيم الطاعة والمواطنة والواجب.
وسلوك القوة لا ينحصر على الدولة فقط بل حتى الفرد فهو يحاول أن يفرض سيطرته على الآخرين، فكل عمل تجاه الآخرين هو نتيجة هذه الرغبة الداخلية بأن تجعل الشخص تحت سيطرتك بأي طريقة كانت، سواء بإعطائه هدية، أو بزعم الحب له، أو بالثناء، أو بالإيذاء .. فالهدف هو فرض إرادتك على الآخرين وبالتالي تفرز قيم الانتقام والتكبر والتجبر.
ويرى "نيتشه" أن هذه الإرادة ليست شراً بل هي جزءاً أساسياً من الوجود؛ والرضا والسعادة تأتي لاحقاً كنتيجة لقدرة الكائن لأن يعيش وفق غرائزه.
فالنظرة الغريبة تأصل النزعة الفردية ـ كما ذكرنا سابقاً ـ وتعزز الأنا بإطلاق كما في الدولة أو بحصر كما في الفرد. لذلك وفق هذا الزعم لا يوجد شيء أسمه إيثار أو حب الخير للناس وإنما فرض السيطرة بأي أسلوب. وهذه النظرة تجعل الإرادة مصدر لكل الشرور والمعاناة في هذا الكون. وتجعل نزعة الإنسان حيوانية "فالعيش للأقوى"، ومجتمع يحمل هذه التصورات والرؤى ليس جديراً أن يُقرأ فضلاً أن يقلد.
وتأمل هذا الاتجاه والذي لا يقيم للضعيف وزنا مع مكانة الضعفاء في المجتمع الإسلامي حيث يقول عليه الصلاة والسلام:" إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم "، وهذه النظرة العالدة للمجتمع إذ البناء المجتمعي لابد أن يكون لجميع أفراده فلا تهمل طائفة لضعفها أو جهلها، بل المجتمع كالجسد الواحد لا يمكن أن يعيش سليماً وجزء منه مريض مهمل ففي الصحيحين وغيرهما من حديث النعمان بن بشير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه البخاري ومسلم. ومما أخرجه الشيخان أيضاً من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال :"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". والله أعلم.