مدونة المعارف

10‏/03‏/2013

التربية القرانية وأثرها على الفرد والمجتمع


لم تكن تربية الأصحاب داخل قاعات المحاضرات يتلقون الدروس النظرية للحفظ والترديد، ولكنها كانت تربية من خلال الأحداث والجهد والجهاد والتعب والنصب، كانت الآيات تتنزل على خلجات نفوسهم وترشدهم وتصوبهم وتبين لهم قوانين النصر والهزيمة وسنن الله في الأمم والجماعات.
نزلت آيات سورة الأنفال معاتبة للمسلمين الذين شهدوا بدراً لاختلافهم حول الغنائم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، ونزلت معاتبة لهم حرصهم على القافلة: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7]، ومع أن الخلاف على الغنائم لم يقع من الكل إلا أن الآيات خاطبت الجميع وكأنهم جسم واحد؛ إبرازاً لأهمية الجماعة وتماسكها ودورها في حماية الفرد ومسؤوليتها عما يقع داخل الصف، وعندما أخطأ بعض الصحابة في أحد وعصوا أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم جاء الخطاب أيضاً للجميع: {حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]، {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]

وهذه أعظم تربية وأكملها لترسيخ تضامن المجتمع الإسلامي ، يقول ابن عطية في تفسيره : جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم، ولذلك وجوه من الفصاحة منها: وعظ الجميع وزجره، ومنها: الستر والإبقاء على من فعل. [تفسير ابن عطية: ج3 ، ص262].
ومن التربية القرآنية: أن العتاب جاء شديداً بعد بدر مع أنهم خرجوا منتصرين، وقد بذلوا أرواحهم في سبيل الله، والبدريون هم الطبقة الأولى من الصحابة، قيل لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، ويصور حالهم قبل المعركة: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] وكل ذلك حتى لا يصيبهم غوائل الظفر التي تصيب الإنسان عادة في مثل هذه الأحوال، وحتى لا يصيبهم الغرور في الدين فيظنوا أنه لابد من النصر في كل موقف لأنهم مسلمون، ولذلك قال لهم: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وكأنه يريد منهم الاستمرار على هذا المستوى الإيماني ليكونوا أصحاب رسالة للعالم أجمع.
كان الموقف في أُحد مغايراً لما حدث في بدر؛ فقد تحول سير المعركة لغير صالح المسلمين بعد عصيان الرماة، وكانت النتائج مؤلمة، وقد ترك بعضهم أرض المعركة، ومع ذلك فقد جاءت الآيات لتعفو عنهم، ولتمس ما حدث مسّاً رقيقاً، وكأنها يد حانية تمسح جراحاتهم، وتزيل عنهم آثار الغم الذي أصابهم، قال تعالى: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 140]، {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، {إنَّ الَذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].

أي دُمْ على مشاورتك لهم وإن وقع منهم ما وقع، ولو أن الآيات جاءت مقرعة وموبخة لهم أشد التوبيخ، بعد أن أصيبوا في أنفسهم، ورأوا ما حل برسول الله صلى الله عليه وسلم لأصابهم من الفشل والإحباط الشيء الكثير، وأما الدرس فقد تعلموه، وما نسوه أبداً بعد أُحد، وهذه هي التربية القرآنية.