مدونة المعارف

08‏/02‏/2010

تعظيم الله تعالى :


لا شيء أعظم من الله، ولا حديث أحسن من الحديث عنه، فذكره دواء، وكتابه شفاء، واتباع أمره نجاء.. الله العظيم المتفرد بالصفات العلى والأسماء الحسنى، كمل فيها وعظم، فما من صفة عظيمة في مخلوق إلا وهي فيه أتم شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].. فلا يداخله نقص، ولا تأخذه سنة ولانوم، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وليس له شريك في الملك، وليس له ولي من الذل، له الخلق والأمر.. تبارك وتعالى، عز وتكبر، هيمن وتجبر، فاطر السموات والأرض، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.. نور السموات والأرض ومن فيهن، وهو قيوم وملك، ورب وإله، وهو ُيطعِم ولا يُطعَم، وهو القاهر فوق عباده.. لا تخفى عليه خافية، يعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.. السموات والأرض في قبضته، والعباد تحت قدرته، يحيي ويميت، بيده الضر والنفع.. هو الذي خلق، وهو الذي ربَّى ورزق، وهو الذي يهدي، وهو الذي يشفي، وهو الذي يميت ، وهو الذي يحيي، وهو الذي يبعث، وهو الذي يثيب: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40]. يجب على الناس أن يتعبوا أنفسهم في ذكره، فذكره حياة القلوب: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].. فالله أجل وأعظم من كل شيء، ينبغي أن يستعلي على كل اهتماماتنا، وأن يستحوذ على قلوبنا وعقولنا، حتى لا نمشي إلا ونحن نذكره... نذكره في فرشنا، وفي طرقنا، وفي بيوتنا، وفي أعمالنا، وفي أسواقنا، وفي أفراحنا، وفي أتراحنا، في كل مكان، إلا مكانا نهانا الشارع أن نذكره فيه (كالحمام)، فذلك هو طريق السعادة وزوال الهموم والبلايا وارتفاع المحن والنقم والفتن.. فالمعظمون لله المحبون له يفرحون بذكره ويشمئزون من ذكر من هو دونه، والأشقياء هم الذين يشمئزون إذا ذكر، ويفرحون من ذكر من هو دونه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]. فإذا أردنا سعادة الدنيا فلنكن مع الله دائما وأبدا، نجعله نصب أعيننا في كل كبيرة وصغيرة، لا نقدم ولا نؤخر إلا بأمره، ولا نتكلم إلا بما يرضيه، ولا نقتحم إلا مراضيه، ولا نسأل إلا عما يقربنا إليه، ونجتنب سخطه، ونترك الحيل والأماني الكاذبة، فالله لن يخدعه أحد، ولن يكذب عليه أحد، ولن يفر منه أحد: قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].. وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]. لا بد من أن نحبه حبا يفوق كل شيء، فهو أهل المحبة، نحن نحب آباءنا لأنهم ربونا وسعوا لأجلنا وحفظونا، ولولا أن الله أعطاهم القدرة والنعم لما قدروا على ذلك، ولولا أن الله عطف قلوبهم علينا لما قدموا إلينا خيرا.. فالله أحق بالمحبة منهم.. ونحن نحب أبناءنا وأزواجنا لأنهم أنس ولذة وتفريج للهموم وسكن ومودة، والله تعالى هو الذي ينجينا من الكرب، وهو الذي يفرح قلوبنا، وهو الذي ينزل السكينة في نفوسنا، وهو الذي جعل في أبنائنا تلك المزايا، ولولا ذلك لكانوا عذابا علينا، فهو المنعم أولا وآخرا.. فهو أحق بالمحبة.. ونحن نحب العلماء والعظماء لكمالهم وقدرتهم، والله تعالى علمه لا يحاط به، وكلماته لا تنفد: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].. وهو كامل القدرة والعظمة.. فهو الأحق بالمحبة لو تفكر الناس، لكن أكثر الناس لا يتفكرون: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. الله تعالى رحيم بنا، رحمته تتجلى في منعه كما تتجلى في عطائه، فكم من إنسان منعه الله المال لأنه يعلم أنه لو أعطي المال لكفر {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].وكم من إنسان منعه الصحة لأنه يعلم أنه لو أعطاه الصحة لطغى، فما يصيب الإنسان من مصائب لا يدل على سخط الله عليه، بل ربما كانت رحمة به.. الله أجل وأعظم مما نخاف ونحذر، فهو الذي بيده الملك والأمر، فلا يجري في الكون شيء إلا بأمره، فيجب علينا أن نتعلق به حبا وخوفا ورجاء.. ونعلم أن الأُمَّة لو اجتمعت على إيقاع الضر بإنسان والله أراد غير ذلك مضت إرادة الله وتعطلت إرادة البشر.. ولو اجتمعت على إنزال النفع بإنسان والله لم يرد ذلك مضت إرادته وتأخرت إرادة البشر، فإذا كان كذلك فمن العيب أن نخاف من مخلوق مهما كان: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (37) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 36-38]. الله يملك الرزق كله فمن الخطأ أن نتطلع إلى فضل أحد من خلقه، نبذل له ماء وجهنا من أجل دراهم، فهو لا يملك، وإن بدا كذلك، فالمالك هو الله ، له خزائن السموات والأرض، لو شاء لقلب ما بأيدينا ذهبا وفضة، ولو دعوناه بصدق متوكلين لرزقنا رزقا لا نحتسبه، فإن أخر عنا الرزق لم يؤخر عنا الرضى، فيغرس في قلوبنا الرضى والقناعة، وتلك أعظم الرزق: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]. الله يعفو عن زلاتنا، فمهما ركبنا الخطايا، وتعدينا الحدود ثم ندمنا وصدقنا في التوبة قبِلَنَا ولم يردنا، بل يفرح بتوبتنا أشد من فرح المضيع راحلته في صحراء عليها طعامه وشرابه فلما أيس منها، نام تحت ظل شجرة ينتظر الموت، ثم قام فإذا هي قائمة عند رأسه.. إذا تقربنا إليه شبرا تقرب منا ذراعا.. وإذا تقربنا منه ذراعا تقرب منا باعا.. وإذا أتيناه نمشي أتانا هرولة، يتلقى عبده التائب من بعيد، وإذا أعرض ناداه من قريب، وإذا استغفره غفر له، وإذا جاءه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا جاءه بقرابها مغفرة، غفر لرجل قتل مائة نفس، وغفر لزانية لما سقت كلبا: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25].. أينما توجهنا فثم وجه الله، فالله معنا بعلمه وإحاطته، ونصرته لمن آمن به: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7].. ألا يعطينا ذلك شعورا بالأمان. فالله معنا، ولن يتخلى عنا، ولن يكلنا إلى عدونا ما دمنا مستمسكين بحبله المتين، ما دمنا نحبه ونخافه ونرجوه، فالله مع أوليائه وأحبائه، يسكن قلوبهم ويدفع عنهم أذى الظالمين، ولما لحق فرعون بموسى ومن معه قال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].. قال موسى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].. قالها مقالة الواثق بوعد ربه، كما قالها محمد عليه السلام لأبي بكر لما خشي أن يستدل القوم على مكانهما: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. إن الشياطين لن تقدر على أذانا إذا كنا مع الله نذكره ونشكره ونعبده ونلتمس رضاه، فإنها تفر من الذاكرين لله المتبعين لأمره، وكل من آذته الشياطين بسحر أو عين أو مس أو نفس أو كرب أو هم فلبعده عن ذكر الله.. الله يرى ويسمع كل ما يحدث في العالم، يرى من يعمل صالحا، ومن يعمل سيئا، يرى ويسمع من يدعو إلى سبيله ويوقف وقته في نصرة دينه.. يرى ويسمع أنات المظلومين والمقهورين الذين ليس لهم ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله.. يرى ويسمع اعتداء المجرمين الكافرين على حرمات المسلمين، يرى ويسمع تخاذل كثير من المسلمين عن النصرة والذب عن إخوانهم المستضعفين.. يرى ويسمع كل شيء، وفي يوم ما سيرى وسيسمع كل إنسان ما كان قدمه من خير أو شر رآه وسمعه رب العالمين.. قال ابن القيم: "قال أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» [رواه مسلم]، وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان، وجود وفضل وبر، فله ومنه، فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه، فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات، وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسموات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والاشقياء" (انظر: فتح المجيد ص13).إن الكلام عن الله تعالى يشفي القلوب ويغسل النفوس من كل بلايا الدنيا ولعناتها، والإقبال عليه بكل القلب والنفس والبدن هو الحل الصحيح للخروج من كل المآزق والمشاكل التي تعترض طريقنا.

02‏/02‏/2010

خبيئة العمل الصالح


الخبيئة هي العمل الصالح الخفي الذي لا يعلم به إلا الله تعالى كصدقة السر، وكمن ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وكمن صلى بالليل وأهله نيام, ونحو ذلك من الطاعات.ويجب على كل مسلم أن يخلص العبادة لله تعالى, وأن يحذر من الرياء قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110] وقال عزوجل:(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البيِّنة:5]وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"(1), وفي رواية لأحمد وابن ماجه بإسناد صحيح أنه قال: " فأنا منه بريء وهو للذي أشرك".وعن أبي سعيد مرفوعاً: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى. قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" (2)، ومما يعين على الإخلاص والبعد عن الرياء:العبادة في السروالطاعة في الخفاء، حيث لا يعرفك أحد ولا يعلم بك أحد، غير الله سبحانه، فأنت عندئذ تقدم العبادة له وحده غير عابئ بنظر الناس إليك، وغير منتظر لأجر منهم مهما قل أو كثر.وهي وسيلة لا يستطيعها المنافقون أبدًا، وكذلك لا يستطيعها الكذابون؛ لأن كلاًّ منهما بنى أعماله على رؤية الناس له، وإنما هي أعمال الصالحين فقط.إن أعمال السر لا يثبت عليها إلا الصادقون، فهي زينة الخلوات بين العبد وبين ربه، كالصلاة في آخر الليل يناجي ربه وحده، وكصدقة السر، وكالدعاء بظهر الغيب، وكمن ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.وليعلم كل امرئ أن الشيطان لا يرضى ولا يقر إذا رأى من العبد عمل سر أبدًا، وإنه لن يتركه حتى يجعله في العلانية؛ ذلك لأن أعمال السر هي أشد على الشيطان وأبعد عن مخالطة الرياء والعجب والشهرة.وإذا انتشرت أعمال الطاعات بين المسلمين ظهرت البركة وعم الخير بين الناس.إذ إنها لا تخرج إلا من قلب كريم قد ملأ حب الله سويداءه، وعمت الرغبة فيما عنده أرجاءه، فأنكر نفسه في سبيل ربه، وأخفى عمله يريد قبوله من مولاه، كالصدقة التي تخفي ما تنفق يمينها.وكمن ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.وقد نَصحَنَا النبي- صلى الله عليه وسلم - بالخبيئة صالحة؛ فقال: " من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل" (3).وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة يحبهم الله, وثلاثة يشنؤهم الله: الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سُراهم حتى يُحبوا أن يمَسَّوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه جاره فيصبر على أذاه حتى يفرِّق بينهما موت أو ظعن، والذين يشنؤهم الله: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان" (4).وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه، من بين أهله وحبِّه إلى صلاته، فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام، وما له في الرجوع، فرجع حتى يهريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي، رجع رجاء فيما عندي، وشفقة مما عندي حتى يهريق دمه" (5).وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟ والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل، فيقول: يَذَرُ شهوته ويذكرني ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء" (6).
حث السلف على عمل الخير في الخفاء
حث الصحابة على عمل الخير في الخفاء، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: " اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح كما أن لكم خبيئة من العمل السيئ".والخبيئة من العمل الصالح هو العمل الصالح المختبئ يعني المختفي، والزبير رضي الله عنه هنا ينبهنا إلى أمر نغفل عنه وهو المعادلة بين الأفعال رجاء المغفرة؛ فلكل إنسان عمل سيئ يفعله في السر، فأولى له أن يكون له عمل صالح يفعله في السر أيضاً لعله أن يغفر له الآخر. وحث السلف على ذلك: قال سفيان بن عيينة. قال أبو حازم: (اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك)(7).وقال أيوب السختياني: (لأن يستر الرجل الزهد خير له من أن يظهره)(8). وعن محمد بن زياد قال: (رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده، ويدعو ربه، فقال له أبو أمامة: أنت أنت لو كان هذا في بيتك)(9). قال أيوب السختياني: (والله ما صدق عبد إلا سرَّه ألا يُشعر بمكانه)(10).وقال الحارث المحاسبي: (الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه،ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله)(11).وقال بشر بن الحارث: (لا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه وافتضح)(12).وقال بشر:(لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس)وقال أيضًا:(لا تعمل لتُذكَر، اكتُم الحسنة كما تكتم السيئة).وعنه أيضًا:( ليس أحد يحب الدنيا إلا لم يحب الموت، ومن زهد فيها أحب لقاء مولاه).وقال إبراهيم بن أدهم:(ما اتقى الله من أحب الشهرة)(13).

مع الصالحين في سرهم :
كان أبو بكر الصديق-رضي الله عنه-يذهب إلى بيت امرأة عجوز كفيفة البصر, فيكنس بيتها،ويحلب شاتها،ولحقه ذات يوم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- فلما خرج سأل العجوز عنه. فقالت:يأتيني كل يوم فيعمل كذا وكذا، فبكى عمر- رضي الله عنه-وقال:ويحك ياعمر أعثرات أبي بكر تتبع يا عمر!! وحصل مثل ذلك بين عمر بن الخطاب وطلحة- رضي الله عنهما-،حيث كان عمر يذهب لبيوت الأرامل فيقضي حوائجهم فلحقه طلحة بن عبيد الله, فدخل بعده تلك البيوت فوجدهم أرامل لا يعلمون أنه عمر, فقال طلحة: أعثرات عمر تتبع يا طلحة. وكان علي بن الحسين يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة،ويقول:(إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب)(14).وذُكر أيضاً أن ناساً من أهل المدينة يعيشون لايدرون من أي كان معاشهم،فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل.ولما مات وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل أكياس الطحين في الليل الى منازل الأرامل.وقال بعضهم:مافقدنا صدقة السر حتى توفي زين العابدين علي بن الحسين –رحمه الله تعالى- عن عمران بن خالد قال: سمعت محمد بن واسع يقول:( إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به)(15).وعن يوسف بن عطية عن محمد بن واسع قال:" لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه".وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. وقال حماد بن زيد:" كان أيوب ربما حدث بالحديث, فيبكي, ويلتفت, ويمتخط, ويقول:ما أشد الزكام".وعن ابن أبي عدِّي قال: صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان خرازًا يحمل معه غداه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًا فيفطر معهم.(16).وذكر الحسن البصري:" إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته، فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام ، قلت: لئلا يظن أنه يرائي بالبكاء"(17).وقال مغيرة:" كان لشريح بيت يخلو فيه يوم الجمعة، لا يدري الناس ما يصنع فيه"(18).قال عبد الرحمن بن مهدي:" قلت لابن المبارك: إبراهيم بن أدهم ممن سمع؟ قال: قد سمع من الناس، وله فضل في نفسه، صاحب سرائر، وما رأيته يظهر تسبيحاً ولا شيئاً من الخير"(19).وقال نُعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول:" ما رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة"(20).وروى الذهبي عن الخريبي قال:" كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح،لا تعلم به زوجته ولا غيرها"(21).


الأسباب المعينة :
أ - تدبر معاني الإخلاص:فالتربية على الإخلاص لله سبحانه وتذكير النفس به دائمًا هي الدافع الأول على عمل السر، ذلك أن الباعث على عمل السر هو أن يكون العمل لله وحده, وأن يكون بعيدًا عن رؤية الناس، فعلى المربين تطبيق معاني الإخلاص في أمثال ذلك السلوك الخفي أثناء تدريسه للناس، وحثهم على عمل السر من منطلق الإخلاص لله سبحانه.ب - استواء ذم الناس ومدحهم: وهو معنى لو تربى عليه المرء لأعانه على عمل السر، إذ إنه لا تمثل عنده رؤية الناس شيئًا، سواء مدحوه لفعله أو ذموه له؛ لأن مبتغاه رضا ربه سبحانه وليس رضا الناس، وقد سبق أن بعض العلماء كان يُعلم تلاميذه فيقول لهم: اجعلوا الناس من حولكم كأنهم موتى.
جـ - الحرص على كمال العمل: وأقصد بذلك أن يتعلم المسلم أنه يجب أن يسعى إلى أن يكتمل عمله, وتكمل كل جوانبه ليحسن ويقبل، وإن العمل الذي لا يراه الناس يُرجى فيه الكمال أكثر مما يرجى في غيره، فينبغي الاهتمام به أكثر.. لقوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود:7] د - صدقة السر: قال تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم) [البقرة: 271].فهي طريقة عملية سهلة لتطبيق عمل السر عمليًّا، فبالإكثار من صدقة السر يُعَود الإنسان نفسه على أعمال السر ويتشربها قلبه وتركن إليها نفسه، وقد ذكر أهل العلم بعضاً من الفضائل في صدقة السر منها: أن صدقة السر أستر على الآخذ وأبقى لمروءته وصونه عن الخروج عن التعفف، ومنها أنها أسلم لقلوب الناس وألسنتهم؛ فإنهم ربما يحسدون أو ينكرون عليه أخذه, ويظنون أنه أخذ مع الاستغناء، ومنها أنها أقرب إلى الأدب في العطاء.هـ-أداء النوافل في البيوت: فإنه أحرى للإخلاص،وفيه قدوة للأهل ولا سيما الأطفال، وفيه بركة ذكر الله في البيت قال صلى الله عليه وسلم:
" أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (22).

 **************
الهوامش:
1- رواه مسلم.2- رواه أحمد بإسناد حسن.3- رواه أحمد في الزهد وصححه الألباني.4- رواه أحمد وابن حبان ،وصححه الألباني.5- رواه أحمد وأبو داوود،وحسنه الألباني.6- رواه الطبراني بإسناد حسن.7- ( السير6/96). 8- ( السير6/15).9- ( السير 3/359).10- ( السير6/15).11- ( السير12/110).12- ( السير10/469).13- ( السير 7/387 ).14- رواه أبو نعيم في الحلية 3/135 وذكره الذهبي في السير4/393.15- ( السير 6/119).16- (السير 6/376).17- ( السير 4/563).18- ( السير4/100).19- ( السير 7/387 ).20- ( السير 8/48).21- ( السير9/346 ).22- رواه أحمد والنسائي.